العولمة تعني صناديق التحوط، والملاذات الضريبية، وأن يحصل مدراء البنوك الكبرى على مرتبات وعلاوات خيالية، ويتضور الفقراء جوعاً في إفريقيا، وتمثل النقيض التام لـ"المجتمع الكبير"... إنها باختصار تعني كل ما يدعو للنفور من جانب الذين عانوا من ويلاتها. هذا هو الطرح الأساسي الذي يضمِّنه "مارك مالوتش براون"، عالم الاقتصاد ووزير شؤون إفريقيا بوزارة الخارجية البريطانية، والنائب السابق لأمين عام الأمم المتحدة، في كتابه "الثورة العالمية غير المكتملة... حدود الدول والسعي لسياسات جديدة"، وهو سرد تاريخي من ناحية أولى، وسيرة ذاتية للمؤلف من ناحية ثانية، ومناقشة سياسية من ناحية ثالثة. يبدأ الكاتب بتأكيد أنه رغم أهمية العولمة وما أحدثته من تغييرات، فإنه لا يوجد نقاش جدي بشأن الطريق التي ينبغي للقائمين على الأمور أن يديروا بها عالماً بات مارقاً، وتحول لساحة مفتوحة لتطبيق مبدأ "دعه يعمل دعه يمر" الشهير، وتقوم فيه الشركات العابرة للقارات بعمل ما تراه، وتختار القانون الوطني الذي تُخضع له معاملاتها دونما اعتراض من أحد. وهذا التسيب في المنظومة الدولية يرجع في نظر الكاتب إلى أنه كانت هناك في السابق قوة واحدة مهيمنة، هي الولايات المتحدة، تسوس شؤون العالم، أما اليوم فهناك قوى جديدة صعدت على الساحة مثل الصين والهند، فباتت التجارة تتدفق وبوتيرة متصاعدة بينهما وبين الدول النامية، وبالتالي لم يعد بمقدور أي قوة مهيمنة أن تنظم الساحة الاقتصادية العالمية، لأن القوى العالمية الجديدة باتت تمتلك رؤاها الخاصة بشأن تنظيم الجسم الاقتصادي العالمي... وهي رؤى قد لا تختلف مع رؤية القوة المهيمنة السابقة. وتكمن المشكلة في نظر المؤلف في نقطة مهمة وهي أن العولمة باتت حقيقة مفروضة على العالم ولا مهرب منها، ولا تستطيع دولة من الدول، لاسيما الصغرى والفقيرة، التخلص من ربقة العولمة لأنها لن تجد من تتعامل معه، وستجد أن الجميع باتوا ملتزمين بالقواعد التي فرضتها تلك الظاهرة. على ضوء هذه الحقيقة، لا مفر للراغبين في تنظيم الساحة وتحديد القواعد، من إدراك القواعد العملية التي تقوم عليها العولمة. وإلا سوف يبدو مستقبلنا مبهماً وغائباً وراء سحائب من عدم اليقين، وستكون حركتنا نحو المستقبل مزيجاً من التخبط والعشوائية. وينتقل المؤلف إلى نقطة مهمة للغاية، وهي أنه خلال السنوات الأخيرة برزت رغبة كل فرد وكل جماعة في العالم الثالث في أن يكون له (أو لها) رأي في إدارة شؤون حياته (أو حياتها)، الرغبة التي تكاثفت وتراكمت قبل أن تتحول إلى انفجارات تخلصت فيها شعوب كثيرة من أغلال نظم قديمة كانت تقيدها تحت دعاوى عفا عليها الزمن. وهذه الانفجارات تبلورت في شكل هبّات وانتفاضات تخلصت فيها الشعوب، في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط مؤخراً، من أغلالها وانطلقت على طريق التقدم. ورغم أن العولمة بما أتاحته من وسائل متطورة، وخصوصا تلك التي أفرزتها ثورة الاتصالات والمعلومات، لعبت دوراً في هذا المد الديمقراطي التحرري من ناحية، فإنها اختطفته من ناحية ثانية. فحياة كل فرد في العالم باتت تتكامل ليس مع حياة أفراد أسرته أو مجتمعه المحلي فحسب، وإنما أيضاً مع حياة أفراد آخرين في أماكن أخرى من المعمورة. تلك الأماكن التي يأتي منها غذاؤه، وكساؤه، وخدماته، ووسائل ترفيهه، وتوجد فيها مقار البنوك العالمية التي تتعامل معها دولته، ومراكز الخدمة في بلدان أخرى تفصل بينه وبينها بحار ومحيطات. كل ذلك له آثاره وتداعياته على الديمقراطية الداخلية وعلى كل ما يهم حياة الإنسان من تمويل وتجارة وصحة وأمن وأمور أخرى. فكل دولة من دول العالم، كما يقول المؤلف، تتحكم في بعد واحد أو بعدين من أبعاد العولمة، بينما تعتمد على الدول الأخرى في بقية الأبعاد. هذه في نظر المؤلف هي جوانب القصور وعدم الاكتمال في الديمقراطيات المحلية، التي ما تزال تخوض معارك طاحنة مع القوى القديمة، وضد الفقر والتهميش. ويقول براون إن الهدف الخاص بتحقيق الديمقراطية العالمية، أي الديمقراطية التي تستظل بها كافة الأمم والشعوب، هو هدف عظيم بحد ذاته لكنه على درجة هائلة من الصعوبة والتعقيد، ويفوق قدرة الشخصيات العظيمة، والدول المنفردة مهما بلغ تقدمها. سعيد كامل الكتاب: الثورة العالمية غير المكتملة... حدود الدول والسعي لسياسات جديدة المؤلف: مارك مالوتش براون الناشر: بنجوين برس تاريخ النشر: 2011