الوضع في "مسيرة التسوية" سيئ؛ فالحكومة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو لا يمكن اعتمادها شريكاً في عملية "التسوية"، وهي تدير ظهرها لكل ما يطرح عليها من مبادرات وطلبات، وتقابل دعوات الجميع للسلام والتسوية بمزيد من الاستعمار (الاستيطان) والتهويد. ومع أن الآمال قد عُقدت على الإدارة الأميركية الحالية برئاسة أوباما منذ توليه المسؤولية في "البيت الأبيض"، لم تحدث على أرض الواقع تغيرات كبيرة تجاه القضية الفلسطينية، رغم استمرار الإدارة في طرح مواقف ومبادرات بين الحين والآخر، تجاه قضايا التسوية، لكننا نجد دوماً إسرائيل رافضة للتجاوب. وفي ظل الاعتراف بأن خطاب إدارة أوباما والنوايا المعلنة، تشكل محطات إيجابية مقارنة بما طرحته غيرها من الإدارات الأميركية السابقة، فإن "حق الفيتو" الذي استخدمته الولايات المتحدة مؤخراً في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الذي يدين "الاستيطان"، أصاب الكثيرين بخيبة الأمل، لاسيما وأن لإدارة أوباما مواقف سياسية متميزة في رفض هذا النوع من الاستعمار. أما العالم العربي، ومن ورائه الإسلامي، فحدث ولا حرج. فهما عالمان غير قادرين على لعب أي دور أو تقديم المساعدة، وبخاصة في ظل الأحداث المتسارعة هنا وهناك من انتفاضات شعبية واحتجاجات. أما الطامة الكبرى فهي استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي يتعمق بإجراءات "انتقامية" من كلا الطرفين "الحاكمين" في الضفة والقطاع. الفلسطينيون محاطون بكتلة من العداوات والأوضاع المزرية. وحتى لو كانوا موحدين ومنسجمين ومتفقين على برنامج وطني، بل حتى ولو كانوا متناغمين، فإنهم بحاجة إلى معجزات لتحقيق أهدافهم، فما بالنا بانقسام أدى إلى تغييب الوحدة الوطنية وأصبح الفلسطينيون في ظله مقعدين عاجزين لا يقدرون على الحركة المفيدة أو القيام بأي دور سياسي فعال وقوي لمواجهة الحقائق الإسرائيلية المفروضة والملموسة على الأرض من تهويد واستعمار! حقاً، لقد "استحقت" هذه المرحلة لقب "أسوأ مرحلة تمر بها القضية الفلسطينية في تاريخها". ومع إصرارنا على ضرورة تجاوز الجميع "الكرامات الشخصية والجروح" من أجل الهدف الأسمى؛ أي الخلاص من الاحتلال، نؤكد أن عدم مداواة الجرح توسع وتعمق رقعة الالتهاب، وعدم رتق الفتق يوسع الخرق. المصالحة الفلسطينية ممكنة لأن الإرادة والنية الحقيقية متوفرة لدى أغلبية الفتحاويين والحمساويين، ناهيك عن الفصائل الأخرى التي يطحنها الانقسام. بل إن الشعب الفلسطيني، وأنصاره من العرب وغير العرب، مطعونون بخناجر ذلك الانشطار! وحقاً، فإن القضايا المشتركة الجامعة راسخة وعلى رأسها إدراك الجميع أن المستفيد الأول من هذا الشرخ الداخلي هو الاحتلال الذي استغل الانقسام ومنحه مساحات أكبر للتحرك بحرية في عملية فرض الأمر الواقع حتى أضحى الحال منذراً بانهيار سياسي خطير لا تحمد عقباه، الأمر الذي جعل المراقبين والمهتمين يرون "خاتمة سوداء" في نهاية النفق. في هذا السياق، يبدو المشهد الفلسطيني عبثياً من فوضى في الأولويات وتباين في الأجندات. وعليه، فالمطلوب من القوى الوحدوية إدراك ضرورة إخراج "الحالة الفلسطينية الراهنة" من النفق الانقسامي الذي يمثل صفحة محزنة في سجل التاريخ الفلسطيني، والمبادرة إلى استعادة الوحدة الوطنية الشاملة والاتفاق على خطة وطنية متكاملة لمواجهة المخاطر والتحديات التي يواجهها شعبنا الفلسطيني. فبالوحدة فقط يمكن الرد على جرائم الاحتلال. صحيح أن هناك جهوداً متنوعة لتحقيق المصالحة لكنها تحتاج إلى مزيد من التجاوب الفصائلي الفلسطيني الذي يحقق تجاوزاً لمرحلة قلبت الأولويات وأضرت بالقضية. فالقواعد الشعبية في الضفة والقطاع والشتات، والتي تبحث عن بصيص أمل للخروج من دهاليز الانقسام وتوجيه الجهود والطاقات في مشوار النضال الطويل لتحقيق المطالب والحقوق الفلسطينية العادلة، قد باشرت بالتحرك بعد طويل تململ. فهذه القواعد تدرك أن تحقيق المصالحة بات يستوجب تجاوزاً للنوايا والمصالح المتضاربة المنعكسة على مدى الاهتمام الحقيقي (غير الإعلامي) بالمصالحة مثلما تقتضي تجاوزاً للارتباطات الإقليمية من أجل هذا الهدف الوطني السامي. لذا، فإن بيت القصيد، وبمعزل عن المسؤول عن "بيضة ودجاجة" الانقسام، فقد بات من الملح عقد مؤتمر إنقاذ وطني مليء بالمبادرات. ولأن موقفاً كهذا يعتبر مصيرياً للقضية الفلسطينية نتمنى على عباس، بقوة شرعيته الرسمية العربية والدولية، المبادرة إلى الدعوة لمثل هذا المؤتمر، وهو الذي طالما أعلن عن إصراره على تحقيق المصالحة بل أكد استعداده للذهاب إلى آخر الدنيا من أجل تحقيقها، وغزة قريبة وكذلك دمشق، "وإن لم يأت الجبل إلى موسى، يذهب موسى إليه". ومع استمرار المساعي، سواء عبر قيادات في الحركتين، أو من شخصيات فلسطينية مستقلة، أو حتى دول عربية لإنجاح المصالحة، يبقى السؤال الجوهري: أين دور الفصائل الفلسطينية التي -للأسف- التزمت، في الأغلب الأعم، التصريحات من دون الأفعال؟! ومع الترحيب الكبير بالمبادرات الشعبية الأخيرة التي أعلنت غضبها حيال الانقسام، يبقى على الجميع، فصائل ومؤسسات مجتمعية مدنية، الإسهام في الدعوة إلى هذا المؤتمر من خلال تعزيز مبادراتها عبر تقريب وجهات النظر وبلورة الأفكار وإيجاد أساليب التنفيذ ووضع الخطط والبرامج. وإذ نكرر تثمين نداء شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية الذي أطلقته قبل نحو أسبوعين تحت عنوان "لتتوقف حالة الاستنزاف الداخلي، ولنشرع في ترتيب البيت الداخلي لمواجهة الاحتلال ومخططاته"، وقد حمل ذلك النداء توقيع أكثر من ثمانين منظمة أهلية فلسطينية من الضفة وغزة وجاء في إطار تفعيل النضال الشعبي لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، فإننا نكرر أيضاً ضرورة تبني الدعوة إلى عقد مؤتمر إنقاذ وطني. وخلاصة القول: ما لم تصطف "فتح" و"حماس" وكل فصائل الشعب الفلسطيني ومؤسساته المدنية في خندق واحد لمواجهة الخطر الكبير الذي يتهدد الشعب الواحد، فإن هذه القوى (وقطعاً ليست القضية الفلسطينية العصية على الموت) ستشيع إلى مثواها الأخير، وسيسجل التاريخ لهذه القوى دورها المتقاعس. من هنا نؤكد على أهمية انعقاد مؤتمر إنقاذ وطني تشارك فيه جميع القوى الفلسطينية لإنجاز الوحدة الوطنية، الشرط الضروري لاستكمال معركة التحرر الوطني وصولاً إلى الحرية والاستقلال.