إذا كان فهم البعد الاجتماعي والاقتصادي للشارع العربي ضرورة ملحة، فإن فهم طبيعة الحراك الذي انطلق من تونس إلى مصر وليبيا واليمن وغيرها، يفرض علينا في العالم العربي التحدث بصراحة ووضوح. فثمة مخاوف في هذه الدول من إمكانية انحراف التغيير والإصلاح من الحرية إلى التبعية، ومن العدالة الاجتماعية إلى الفوضى والديكتاتورية، ومن الاستقلال والوحدة الوطنية إلى التدخل الخارجي والتقسيم الداخلي... فالتجارب المريرة للثورات العربية تدعونا أن لا نستسلم للعواطف وأن نتعامل مع الأحداث بمنطق الحرص والحكمة. وهناك ما يدل على أن الثورات الحالية لم تأت فجأة أو كمجرد صدفة، ومن ذلك ما جاء في كتاب البريطاني جون برادلي، "في غياهب مصر: بلاد الفراعنة على شفا الثورة"، الصادر عام 2008، والذي أشار فيه إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها مصر، بما في ذلك ارتفاع البطالة، وتفشي الفساد، وانتشار الفقر، وتدني الأجور، ومشكلات الخصخصة، وتزايد المظاهرات خلال الأعوام الأخيرة... ليقول إن مصر ستنفجر في فترة قريبة جداً. كما صدر في عام 2008 أيضاً كتاب عن جامعة برنستون الأميركية عنوانه "مصر بعد مبارك: الليبرالية والإسلام والديمقراطية"، أشار مؤلفه "بروس روثر فورد" إلى العديد من النقاط التي تدل على قرب حدوث ثورات في العالم العربي، إذ قال إنه حتى نهاية الثمانينيات كانت فلسفة أميركا والغرب المنحازة للاستقرار على حساب الإصلاح السياسي في المنطقة العربية، تنحصر في ثالوث المصالح المعلنة: تدفق النفط وحماية إسرائيل واحتواء النفوذ السوفييتي. ومع انهيار المعسكر الاشتراكي حلَّ مبرر رابع هو احتواء "التطرف الإسلامي". لكن التحول المهم حدث بعد تفجيرات 11 سبتمبر حيث ظهرت سياسة جديدة مفادها أن الديمقراطية وحدها تؤمن استقرار النظم الحليفة للولايات المتحدة، فأضيفت الديمقراطية إلى ثالوث المصالح السابقة. وهذا ما أشار إليه كتاب "لماذا سيكون القرن 21 قرناً أوروبيا؟"، وكذلك دراسة مشتركة نفذتها مجموعة من مراكز الأبحاث الأميركية تحت عنوان "اليوم الذي بعد"، وقد جاءت بعد زيارات عديدة قام بها باحثون من هذه المراكز إلى الدول العربية واختبارات متنوعة تعرفوا من خلالها على الإشكاليات التي تؤثر في فكر الشباب العربي والتي تكون مدخلاً للتأثير في عقولهم. وقدمت هذه الدراسة رؤية سياسية طويلة المدى تركز على التعليم ونشر الثقافة الأميركية الموجهة، وتستهدف عقول الشباب العربي عبر "القوة الناعمة" بعد أن وجدت أن تأثيرها أكبر بكثير من تأثير القوة الصلبة، مستغلة في ذلك الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المنطقة بقصد خلق فجوة بين الشباب العربي وحكومات دوله، وذلك بالعزف على وتر الإصلاح وشعارات أخرى تلامس وجدان الشباب. لكن السياسي الروسي "يفغيني ساناتوفسكي" اعتبر أن ما حدث في تونس ومصر مدعوم من الولايات المتحدة عبر موظفي سفارات غربية وبعض منظمات حقوق الإنسان. ويقره في ذلك مواطنه المحلل السياسي سيرغي كورغينان ضمن مقال نشرته صحيفة "كوموسو لسكايا برافدا" (2011/2/26) حيث اعتبر الثورات الحالية لعبة كبيرة ضمن مخطط تقوده الولايات المتحدة لتقسيم العالم. وكان السياسي الروسي بريماكوف صريحاً عندما قال إن أميركا تحرص من خلال هذه الثورات أن يتسلم السلطة في دول المنطقة أشخاص قادرون على حماية المصالح الأميركية. فهل حصل التغيير والإصلاح بعيداً عن التدخلات الأجنبية، وبمنأى عمن يسرقون ثمار الحراك الحالي كما رأيناه في عدة دول عربية؟