منذ قرابة نصف قرن حذر الرئيس الأميركي في ذلك الوقت الجنرال داويت إيزنهاور من "المجمعات الصناعية العسكرية" في الولايات المتحدة، ومن الدور الذي تمارسه في صناعة القرار الأميركي والتأثير فيه وعليه. ولم يكن إيزنهاور مجرد رئيس. كان جنرالاً. وقد اكتسب شهرته من الإنجازات العسكرية التي حققها في الحرب العالمية الثانية. وهي التي أوصلته إلى البيت الأبيض. وعندما يحذر رئيس بهذه الخلفية العسكرية من مخاطر "المجمعات الصناعية العسكرية" في بلاده، فإن تحذيره يحمل من المعاني ويعكس من الآثار ما لا يمكن تجاهله أو التقليل من خطورته. وإذا كانت هذه المجمعات الصناعية لا تزال قائمة حتى الآن، وإذا كانت لا تزال فاعلة ومؤثرة في صناعة القرارات الأميركية السياسية منها والأمنية والاقتصادية، فلأنها قهرت الرئيس السابق، وتمكنت بذلك من تثبيت حضورها وفعاليتها. فقبل حوالي خمسين عاماً ألقى إيزنهاور خطاباً وداعيّاً، جرى التعتيم عليه، إلا أن الأضواء سلطت عليه من جديد لمناسبة مرور الزمن الذي يسمح بالكشف عن الوثائق السرية. قال إيزنهاور في خطابه: "إن كل بندقية تصنع، وكل سفينة حربية تدشن، وكل صاروخ يطلق، هو في المحصلة الأخيرة عملية سرقة لحقوق الجياع الذين لا يتوفر لهم الطعام، وللمحرومين الذين لا يتوفر لهم الكساء". ويبدو أن الرئيس الحالي أوباما أضاف شريحة ثانية إلى اللائحة من خلال إقرار قانون الضمان الصحي مما بات يمكن معه القول أيضاً: إنها سرقة للمرضى الذين لا يتوافر لهم الدواء. غير أن الحزب "الجمهوري" المعارض لأوباما، الذي فاز بالانتخابات الأخيرة وفرض سيطرته على مجلس النواب الأميركي، يعارض هذا القانون ويضغط على الرئيس للتراجع عنه. وفي الوقت ذاته وضع أوباما موازنة عسكرية جديدة تستجيب لمطالب "المجمعات الصناعية العسكرية "، ورفعها الى الكونجرس للمصادقة عليها. ويبلغ حجم هذه الموازنة 725 مليار دولار. أي ما يزيد بنسبة 6 في المئة عن الموازنة التي وضعها سلفه بوش، علماً، بأن الأخير شن الحرب على أفغانستان واجتاح العراق، وأعلن ما سماه الحرب على الإرهاب. وكذلك علماًَ بأن الأول -أوباما- قرر الانسحاب من العراق، وإنهاء الحرب خلال عامين في أفغانستان، وأنه أسقط شعار الحرب على الإرهاب بالعمل على احتواء هذه الظاهرة السلبية المدمرة. ومن هنا يبدو أن تأثير المجمعات الصناعية العسكرية لا يزال قويّاً وفاعلاً. فالأرقام الدراسية الأميركية تقول إن الانفاق على الجندي الأميركي الواحد، من القوات المتواجدة في أفغانستان، يكفي لبناء عشرين مدرسة في هذه الدولة المعدمة. غير أن نظرية المجمعات الصناعية تقول بالحل العسكري لمجابهة التطرف المتمثل في حركة "طالبان"، وليس بالحل التربوي والاجتماعي، مما يعني إنفاق المزيد من المال لإنتاج الأسلحة، بدلاً من الإنفاق على بناء المدارس والمستشفيات. فالولايات المتحدة تحتفظ اليوم بقواعد عسكرية منتشرة في مختلف أرجاء العالم يبلغ عددها 560 قاعدة. وقد أقيمت هذه القواعد أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وعلى رغم مرور أكثر من نصف قرن على انتهاء الحرب فإن هذه القواعد لا تزال في حالة توسع وتعزيز استجابة لنظرية "المجمعات الصناعية العسكرية". ولكن لو أن هذه القواعد تتحول إلى جامعات.. ولو أن المليارات من الدولارات التي تنفق عليها، تخصص لتمويل برامج التعليم والتحديث وإعداد الإدارات المدنية والتربوية وتأهيلها في الدول المنتشرة فيها، لتغيرت صورة العالم، ولتغيرت صورة أميركا أيضاً فيه. ويذكر المؤرخ الأميركي أندرو باسيفيتش في كتابه "حكم واشنطن: طريق أميركا إلى الحرب الدائمة"، أن "عديد القوات الأميركية يفوق عدد دبلوماسييها في العالم"، ويضيف إلى ذلك ساخراً: "إن للولايات المتحدة جهازاً عسكريّاً مليارديراً (غنيّاً).. وجهازاً دبلوماسيّاً مُعدماً (فقيراً)! ويعكس ذلك مدى تأثير "المجمعات الصناعية العسكرية". ومن جانبها تعارض وزيرة الخارجية هذا التوجه، وتبرر معارضتها بجدوى العمل السياسي والدبلوماسي غير أن أوباما الحريص على استرضاء "الجمهوريين" في السنتين الأخيرتين من رئاسته، أبدى تفهماً لطلبهم، وبالتالي يبدي استعداداً للخضوع لضغوط المجمعات الصناعية. فكلينتون تقول إن اللجوء الى القوة المدنية يوفر المال والأرواح معاً. ولكن خلافاً لهذه النظرية وافق أوباما على رفع موازنة الحروب الخارجية إلى 158.7 مليار دولار! وفي الأمثال الشعبية الأميركية مثل يقول إنك إذا كنت لا تحمل سوى "المطرقة"، فإن كل مشكلة تواجهها تبدو لك وكأنها "مسمار". ومن خلال الموازنة العسكرية الضخمة وموازنة الحروب الخارجية، يتضخم حجم المطرقة الأميركية بحيث تبدو المشاكل التي تواجهها الولايات المتحدة في العديد من زوايا العالم مجرد مسامير لا تحتاج معالجتها إلى أكثر من مطرقة! وقد خصصت من أصل هذه الموازنة هبة مالية استثنائية لإسرائيل قيمتها 205 ملايين دولار لتمويل المشروع الإسرائيلي المعروف باسم "القبة الحديدية". وهو المشروع الذي تعتقد إسرائيل أنه يحميها من الصواريخ المعادية التي قد تطلق عليها. ولذلك، تلتقي إسرائيل مع الولايات المتحدة على مبدأ علاقة المطرقة بالمسمار.. فالمشاكل التي تواجهها إسرائيل لا تعالج بالسياسة، ولكن بالمطرقة العسكرية. وقد اعتمدت هذا المبدأ منذ قيامها في عام 1948. واعتمدته الولايات المتحدة منذ ولادة "المجمع الصناعي العسكري" الذي تبدو بصماته واضحة في الحرب الأميركية- المكسيكية ( 1846-1848) أو الحرب الأميركية- الإسبانية 1898. كما تبدو واضحة من خلال مشاركتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبعد ذلك في حرب كوريا.. ثم في حرب فيتنام.. وحديثاً في الحرب على العراق وأفغانستان. لم يكن إيزنهاور إذن يقرأ التاريخ الماضي عندما حذر في خطابه الوداعي قبل خمسين عاماً من نفوذ "المجمعات الصناعية العسكرية" الأميركية.. بل كان يقرأ المستقبل أيضاً.. فقد قال في خطابه الذي عُتّم عليه طوال كل هذا الوقت إن تأثير هذه المجمعات لا يقتصر على السياسة والاقتصاد فحسب، بل إنه يشمل كذلك الروحانيات. ومن المعروف أن أهم وأكبر حركة إنجيلية يمينية متطرفة في الولايات المتحدة وهي حركة المسيحانية الصهيونية، ترتبط باستراتيجية هذه المجمعات. وهي تدعو إلى اعتماد القوة في حل المشاكل الخلافية.. حتى أنها تربط عقيدة العودة الثانية للمسيح المنتظر بمعركة "هرمجيدون" المدمرة. تعاني الولايات المتحدة في الوقت الحاضر من الأمور الخطيرة التالية: الأول، ارتفاع نسبة البطالة والتي وصلت الى 9.5 في المئة (علماً بأن هذا الرقم لا يشمل أولئك الذين يعملون نصف الوقت ويحصلون على نصف راتب)، والثاني هو ارتفاع العجز في الموازنة نسبة إلى الدخل القومي الذي وصل إلى عشرة10 في المئة. الثالث هو تضخم الدين الوطني والذي يتوقع أن تصل نسبته الى 97 في المئة من الدخل القومي في عام 2021، حيث أن فوائد الدين وحدها سوف تأكل حوالي 4 في المئة من الناتج القومي. والسؤال هو كيف ستعالج الولايات المتحدة هذه المصاعب المالية والاقتصادية والاجتماعية؟ إذا كانت المعالجة على طريقة الرئيس الراحل إيزنهاور، فمن المتوقع مبادرات سياسية فعالة لمعالجة الأزمات الاقليمية وخاصة أزمة الشرق الأوسط على الطريقة التي مارسها الرئيس الأميركي الراحل بالضغط على فرنسا وبريطانيا واسرائيل للانسحاب من مصر بعد العدوان الثلاثي عليها في عام 1956. أما إذا كانت المعالجة على طريقة "المجمعات الصناعية العسكرية"، فإن معنى ذلك ان العالم قد يشهد المزيد من مثل هذه الحروب التي تجعل من العدوان الثلاثي رباعياً.. وربما أوسع!