لا يسع المرء إلا أن يوافق رأي الحكومة الإيطالية عندما طلبت رسميّاً من البرازيل تسليم "سيزار باتيستي"، العضو السابق في مجموعة البروليتاريا المسلّحة للشيوعية والمحكوم عليه منذ عام 1993 لارتكابه أربع جرائم في السبعينيات. وأظنّ أن هذا الدعم مناسب للذين اعتقدوا أن "باتيستي" ذهب ضحية خطأ قضائي. القرار ليس قرار الحكومة البرازيلية للحسم بأنه ثمة خطأ قضائي، إلاّ إذا أرادت هذه الأخيرة التصريح علناً ورسمياً بأن إيطاليا كانت وقت محاكمة "باتيستي"، ولا تزال، جهازاً ديكتاتورياً يضرب بعرض الحائط حقوق المواطنين السياسية والمدنية. ويعتبر طلب التسليم صالحاً طبعاً، لأنه باستطاعتنا التأكيد أنّ محاكمة "باتيستي" تمثل ممارسة العدالة في دولة ديمقراطية السلطة القضائيّة فيها مستقلة. علاوةً على ذلك، لمن لديه أسباب كي لا يثق بإدارة سيلفيو برليسكوني، فإنّ السلطة القضائية أدلت بحكمها في وقتٍ كان رئيس الوزراء الإيطالي لا يزال مواطناً عادياً. بالتالي، يمثّل طلب تسليم "باتيستي" سبباً للدفاع عن نزاهة السلطة القضائية الإيطالية، وفي هذه الحال، يجب على الإيطاليين أن يوافقوا مع الحكومة الإيطالية على قراراتها. قد نميل إلى القول، "أحسنت يا بيرلسكوني، فتصرفك هذا لا تشوبه شائبة". لكن عندما بدأت المحاكمات الجنائية ضد رئيس الوزراء الإيطالي نفسه، ليس من خلال الحكم عليه بعقوبة السجن مرتين كما هو حال "باتيستي"، إنما باستدعائه كي يدافع عن نفسه ضد تهمة قد يثبت براءته منها وحمايته بكل الضمانات القانونية. فلماذا لم يقتصر الأمر على رفضه المثول أمام القضاة، لا بل قد طعن في حقهم في الاستماع إلى قضيّته؟ فهل يحاول فجأةً أن يظهر تضامنه مع "باتيستي" في واجب نزع شرعية السلطة القضائية الإيطالية المشتركة؟ وهل من المحتمل أن يتحضر للهجرة إلى البرازيل ليطلب الحماية نفسها المُقدمة إلى "باتيستي" من عدم الشرعية المزعومة للجهاز القضائي الإيطالي؟ أو أنّ بيرلسكوني يظن أن القضاة الذين حاكموا "باتيستي" كانوا بالتأكيد عادلين في قراراتهم وأنّ نزاهتهم يجب الدفاع عنها، وذلك لحفظ شرف إيطاليا، هل يعتقد أن القاضية "إيلدا بوكاسيني"، التي تستمع إلى قضيته ليست بنزيهة وهي بالتالي تطبق معياراً مزدوجاً؟ هل من الممكن أن يكون الجهاز القضائي نزيهاً ومستقيماً عندما حاكم "باتيستي" وأمسى شائناً وبلا مبدأ عندما حقق أعضاؤه بقضية "روبي روباكوري" النجمة الصاعدة القاصرة التي حضرت حفلات في أحد بيوت بيرلسكوني؟ سيقول محامو رئيس الوزراء الإيطالي إنه من الخطأ أن يفرّ "باتيستي" من وجه العدالة الإيطالية لأنه قلبياً يعلم أنه مذنب بينما "بيرلسكوني" له الحق أن يفعل ذلك لأنه قلبياً يعلم أنه بريء. فكيف لهذه الحجة أن تُقنع؟ يبدو أنّ أولئك الذين قدّموا تلك الحجة وارتادوا المدرسة الثانوية – بيرلسكوني ضمناً- لم يعرفوا نص "كريتو لأفلاطون". ها هي المقدمة باختصار لمن نسي من القراء موضوع الكتاب: حُكم على سقراط بالإعدام (ظلماً وبهتاناً كما سقراط وجميعنا يعلم) وبينما ينتظر في السجن ليتناول شراب النبات "الشوكران السام"، يأتي تلميذه أفلاطون لزيارته ويخبره أن عملية هروب سقراط جاهزة للتنفيذ. وحاول التلميذ استخدام شتى الحجج لإقناع الفيلسوف الحق له بالهرب، لا بل واجب عليه أن يتجنب حكم الإعدام التعسفي. إلاّ أنّ سقراط ذكّر أفلاطون بحقيقةً بسيطة هي إنّ من يجب أن يتخذ موقف الرجل النبيل في وجه عظمة القانون: من يعيش في أثينا وينعم بكامل حقوقه المدنية فيها، وكان سقراط يعرف قيمة تلك القوانين ضمناً، فلو تجرأ وشجبها مرّة لأنها أتت بمفعول عكسي على مصالحه، لكان ساهم في نزع شرعيتها وتدميرها. لا يمكننا أن نستفيد من القوانين إلاّ اذا كانت تصب في مصلحتنا وأن نرفضها إذا أملت قراراً لم نحبّذه. لقد عقدنا اتفاقية مع القانون وهذه الاتفاقية، لا يمكن نخرقها بحسب هوانا. وللعلم سقراط لم يكن موالياً للسلطة؛ فلو كان كذلك، لوجب عليه أن يقول بالحرف أكثر من ذلك– اذا شعر أنّ له الحق في تجاهل القوانين التي لم ترق له فبإمكانه منطقياً كرجل موالٍ للسلطة أن يتوقع من أي شخص أن يطيع القانون الذي لا يروق له إنْ كان ذلك يعني التوقف عند الإشارة الحمراء، أو رفض دفع الضرائب أو سرقة البنوك أو استغلال القاصرين. لم يقدم سقراط الحجة الأخيرة هذه بالطبع لكن موقفه الأخير يبقى نبيلاً وعظيماً وصلباً. أومبرتو إيكو روائي إيطالي مؤلف رواية "اسم الوردة" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"