عندما تصبح تغطية الحدث فورية كالحدث نفسه، ومفتوحة مثله لشتى الاحتمالات، يتفاعل الحدث وتغطيته بشكل يصعب التمييز بينهما. هذا التفاعل المتبادل دوّخ إعلاميين عرباً تصرفوا كقادة ميدانيين، ولا لوم عليهم. فالدوخة أصابت مجلات عالمية رزينة، مثل "نيويوركر"، و"نيوستيتمان" فتساءلتا: "هل تحتاج مصر إلى التويتر؟"، و"هل ينبغي على الثورات أن تُوَتوِت؟"، فيما شككت ببضاعتها مجلة "وايرد" المختصة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات حين أكدت أن "محرك احتجاجات الشرق الأوسط أكبر من الوَتْوَتة". وذهب المعلق السياسي لصحيفة "الغارديان" البريطانية حدّ كتابة مقالة عنوانها "نحن ندين للإنترنت بتغيير العالم، وعلينا الآن تعلّم كيف يمكن غلقه". ومن دون أن يتساءل هل يمكن غلق أداة تغيّر العالم شكا من "أن الإنترنت لم يعد موجوداً في الكومبيوتر على المنضدة، بل ينّق في جيبك طالباً التوقف عما تفعله، والاهتمام به". وقال إن هذا "النق يهدد بإتلاف حضارتنا، ويلحق الضرر بالقدرة على تركيز الذهن، ويقود إلى ضحالة التفكير". إذا كان ذلك صحيحاً، وهو غير صحيح، فإن ضحالة التفكير أقل ضرراً من التفكير "العميق" للإعلام الغربي الذي صنع أكذوبة "أسلحة الدمار الشامل العراقية". وكيف يمكن التفكير بأن تغيير العالم لا يغير التفكير، أو معرفة ما إذا كان تغير تفكير ملايين الناس سبب أو نتيجة تغير العالم خلال القرن الماضي الذي شهد نهوض وسقوط إمبراطوريات عظمى، كالبريطانية والسوفييتية؟ التغير هو الأمر الوحيد الذي لا يتغير، والرهان على التغير في تغيير العالم، ويخسر من يستنكف عن الرهان. "فأن تلعب وتفعل، تبدع على الأقل إمكانية تغيير العالم، وأن لا تلعب، تغلق أي فرصة للفوز". ذكر ذلك هوارد زين، أستاذ علوم السياسة في جامعة بوسطن، وأحد أبرز المفكرين التقدميين الأميركيين. وقارن زين في مقالة عنوانها "تفاؤل اللايقين" هشاشة "قوة السلاح والمال القابلة للقياس مع صفات بشرية يصعب قياسها، كالجدارة الأخلاقية، والتصميم، والوحدة، والتنظيم، والتضحية، وروح الفكاهة، والأصالة، والشجاعة، والصبر". هذا هو الذي جعل التغيير ممكناً في تونس التي لم يكن فيها عندما أحرق البوعزيزي نفسه سوى مائتي ناشط في التويتر من بين ألفي مشترك في الخدمة. ذكر ذلك رئيس جمعية الإنترنت في تونس، وأوضح أن صفحات "ويكيليكس" التي فضحت الفساد في تونس أغلقتها السلطات حال ما طوّر هو وأصدقاؤه موقعاً خاصاً بها. واللعب مفتوح للملايين في عصر الثورة العلمية التكنولوجية التي أنجبت "الإنترنت" و"فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، وتطور الآن أدوات "نانوية" أقوى من المحركات والقاطرات البخارية وغيرها من أدوات الثورة الصناعية التي غيّرت علاقات الإنتاج، ليس بين الطبقات فحسب، بل بين الدول أيضاً. وإذا كان من شبه المستحيل مطلع القرن الماضي توقع أن تصبح دول عربية منتجة لوقود الثورة الصناعية (النفط) الذي استخدمته دول غربية في صناعة محركات الثورة، فكيف يمكن توقع التغيير الذي سيحدثه علماء "الإنترنت" و"النانو" في المنطقة العربية، وفي الصين، حيث يعادل عدد مستخدمي الإنترنت مجموع سكان الولايات المتحدة؟ هنا الوردة فلنرقص هنا، كما تقول أغنية إسبانية شعبية كان شباب الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر يترنمون بها. تفاؤل اللايقين الشاب مقابل تشاؤم اليقين المخضرم يجعل المقارنات التاريخية تعرج. والعرج مؤلم في مقارنة ما يجري في المنطقة العربية بالثورات الأوروبية. ينبه إلى ذلك مايكل هاردت، أستاذ الأدب في جامعة "ديوك" بالولايات المتحدة، وأنطونيو نيغري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة "بادوا" في إيطاليا. ويحذر الأكاديميان في مقالة مشتركة عنوانها "العرب الرواد الجدد للديمقراطية" من استخدام مصطلح "الثورة" المضلل، الذي يفرض على الأحداث في العالم العربي اتباع منطق ثورات 1789 و1917 في أوروبا. "فالتحدي الذي تطرحه انتفاضات العالم العربي ليس في قراءتها كتكرار للماضي، بل كتجارب أصيلة تحمل إمكانات سياسية جديدة للحرية والديمقراطية إلى أبعد من المنطقة، وتجعل العالم العربي في العقد القادم، كقارة أميركا اللاتينية في العقد الماضي، أي يصبح مختبراً للتجارب بين حركات اجتماعية قوية وحكومات تقدمية، من الأرجنتين حتى فنزويلا، ومن البرازيل حتى بوليفيا". ويعتقد المفكران الأكاديميان أن الانتفاضات العربية الجديدة التي يخوضها شباب يتمتعون بثقافة رفيعة موجهة ضد البطالة وطغيان الحكومات الشمولية والتبعية والفقر. ويسيء الفهم من يبحث عن قادة ومراكز قيادية بين هؤلاء الشباب؛ فـ"التعددية قادرة على تنظيم نفسها من دون مركز قيادي لتنظيمات تقليدية قد تدمر قوة التعددية". وليست أدوات التواصل الاجتماعي كـ"تويتر"، و"فيس بوك"، و"يوتيب" سوى مظاهر للتعددية لا أسبابها. "إنها أنماط من التعبير لمثقفين قادرين على تنظيم أنفسهم ذاتياً". هل تغير ثورة شباب المنطقة التوازنات، ليست الإقليمية فحسب، بل أيضاً النظام العالمي لإدارة الاقتصاد؟ وهل تبعث الطموح للحرية والديمقراطية خارج المنطقة"؟ يصعب الجواب عن هذه الأسئلة، فالثورات قد تفشل والجماعات المعارضة التقليدية قد تحاول خطف الحركات، أو تعتليها القيادات الدينية، "إلاّ أن ما يظل حياً هي المطالب السياسية، والرغبات المنطلقة، وبيانات أجيال شابة جديدة تريد حياة مختلفة يمكن أن تجند طاقاتها لها". هكذا هي الانتفاضات؛ يشنها الشباب وقد يخسرونها، ثم يظهر أن ما كافحوا لأجله يتحقق رغم الهزيمة، ويتضح بعد ذلك أنه ليس ما قصدوه، وعلى آخرين الكفاح لتحقيق ما أرادوه، إنما باسم آخر. هذه العبارة المقتبسة من الكاتب والفنان الإنجليزي وليام موريس تفتتح كتاب "إمبراطورية" وهو الجزء الأول من ثلاثية هارد ونيغري، اللذين يعتبران من أبرز فلاسفة عصر الإنترنت. وهذه لحظات جميلة في التاريخ تدرك خلالها السياسة القيمة الموضوعية للعلم التي يقول عنها الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه "إن ما يضمن لنا موضوعية العالَم الذي نعيش فيه، هو أن هذا العالَم مشترك بيننا وبين كائنات أخرى مفكرة. فنحن نتلقى من أناس آخرين، بواسطة أنواع الاتصال التي تقوم بيننا وبينهم، أفكاراً واستنتاجات جاهزة نعرف أنها ليست من عندنا، وفي الوقت نفسه نتعرف فيها على عمل كائنات مفكرة مثلنا. وبما أننا نجد هذه الأفكار والاستنتاجات تتطابق مع عالم إحساساتنا، فإننا نحكم بأن تلك الكائنات المفكرة رأت الشيء نفسه الذي رأيناه نحن، وبهذا نعلم أننا لم نكن نحلم". وعندما يعلم الشباب العراقيون أنهم لم يكونوا يحلمون وحدهم بالعيش خارج أقفاص الطائفية والتعصب القومي والمذهبي سيجتمع شملهم في مسيرات مليونية مبتهجة تمسح عن تاريخهم، ونفوسهم، كآبة قرون من الفقر المادي والروحي.