كان واضحا منذ بداية ثورة 25 يناير المصرية أن إسرائيل في حال تأهب سياسي استعداداً لمرحلة جديدة. لم تكن هذه هي بداية اهتمام إسرائيل بالوضع في مصر بعد مبارك. بدأ هذا الاهتمام قبل سنوات، وازداد بوضوح منذ ربيع العام الماضي، عندما أجرى مبارك جراحة دقيقة في ألمانيا، وأصبح الجدل حول إمكان ترشحه لولاية سادسة واسعاً. غير أن الوضع لم يكن مقلقاً لإسرائيل في ذلك الوقت. كانت مطمئنة إلى أن انتهاء حكم مبارك لا يعنى إسدال الستار على نظامه وسياسته الخارجية. لم تكن هناك تحديات كبيرة تواجه إمكان تولى جمال مبارك الرئاسة بعد والده. وحتى السيناريو الانتقالي الذي توقعه بعض المراقبين، وهو تولي عمر سليمان الرئاسة لفترة واحدة، كان مطمئناً بالنسبة لإسرائيل لأنه يؤكد استمرارية سياسة مبارك تجاهها. وهذا هو الفرق الأساسي بين اهتمام إسرائيل بمرحلة ما بعد مبارك قبل ثورة 25 يناير وبعدها. فقد انقلب الاطمئنان قلقاً انعكس في تصريحات رسمية، وفى إجراءات تعبوية على المستوى العسكري لم يُعلن عنها وإن نُقل عن مصادر في الجيش أن لدى إسرائيل خططاً للتعامل مع مختلف الاحتمالات. وظهر هذا القلق في تكثيف الاتصالات مع الإدارة الأميركية وجماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة. ورغم ترحيب إسرائيل بالبيان الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بعد يومين على تنحي مبارك، وأكد فيه التزام مصر بالاتفاقات والمعاهدات الإقليمية والدولية، فقد ظل قلقها واضحاً. فهذا الموقف، حسب الطريقة التي تفكر بها إسرائيل، يعبر عن التزام قصير المدى حتى نهاية الفترة الانتقالية التي تتولى القوات المسلحة المسؤولية خلالها. لكنه قد لا يُلزم العهد الجديد، خصوصاً إذا أسفرت الخريطة السياسية الحزبية التي ستتبلور في نهاية الفترة الانتقالية عن ازدياد وزن القوى التي رفضت معاهدة السلام مع إسرائيل أو طالبت بمراجعتها. ولا تقتصر هذه القوى على تيار الإسلام السياسي، ولكن الخطاب الإسرائيلي يركز على هذا التيار الذي استُخدم لفترة طويلة لتخويف الغرب. وأعطت خطبة الجمعة التي ألقاها القرضاوي في "ميدان التحرير"، في يوم "جمعة النصر" (18 فبراير الماضي) الذي احتشدت فيه جموع غفيرة احتفالاً بانتصار الثورة، إسرائيل فرصة لإسناد قلقها مما هو قادم في مصر. فكانت هذه هي خطبة الجمعة الأولى التي يلقيها القرضاوي في مصر منذ عام 1981. كما كانت موافقة مصر في اليوم نفسه على عبور بارجتين إيرانيتين قناة السويس باتجاه البحر المتوسط هي الأولى من نوعها منذ قطع العلاقات بين القاهرة وطهران. وقد وافقت وزارة الدفاع المصرية على طلب عبور البارجتين، تطبيقاً للاتفاقية الدولية المنظمة للمرور في قناة السويس. فهذه الاتفاقية لا تعطى مصر حقاً في منع أية باخرة من العبور إلا إذا كانت مملوكة لدولة في حالة حرب معها أو تحمل مواد خطرة. لكن إيران لم تطلب من قبل عبور مرور سفن حربية تابعة لها في القناة منذ قطع العلاقات مع مصر. لذلك، لا تعتبر موافقة مصر على عبور البارجتين الإيرانيتين مؤشراً على تغير في سياستها الخارجية. غير أن هذه الموافقة لم تكن مريحة لإسرائيل التي تنظر إلى كل ما يحدث في مصر الآن بعين القلق. ومن السهل أن يدفع هذا القلق إلى تفسير قرار السماح للبارجتين بعبور القناة باعتباره نتيجة أولى لأجواء جديدة تسود مصر ويمكن أن تكون لها نتائج أخرى أكثر تأثيراً على علاقاتها مع إسرائيل. والأكيد أن هناك أجواء مختلفة بل روحاً جديدة في مصر أيضاً، وأنها ستؤثر بالضرورة في سياستها الخارجية بعد أن تستقر أوضاعها الداخلية، خصوصاً في حال نجاحها في بناء نظام سياسي جديد أكثر ديمقراطية وعدالة يتيح للمواطنين فرصاً وقنوات لمشاركة حقيقية في إدارة الشأن العام واختيار حكامهم وحكوماتهم. فلم تكن سياسة مصر الخارجية، ولا أوضاعها الداخلية، تليق بها لسنوات طويلة. لذلك يحق لإسرائيل أن تقلق فعلاً. لكن السؤال هو عن مصدر هذا القلق وموضعه على وجه التحديد. الإجابة الإسرائيلية تفيد بأن القلق هو على مصير معاهدة السلام الموقعة عام 1979. لكن الإجابة التي قد تحملها السياسة الخارجية المصرية الجديدة يمكن أن تكون مختلفة. فالهاجس الأساسي بالنسبة لكثير من المصريين الذين لم يرضوا عن سياسة نظام مبارك الخارجية تجاه إسرائيل، هو غياب السلام وليس وجوده. فقد كانت هناك، ولا تزال، معاهدة. غير أنه لا يوجد سلام حقيقي ولا علاقة متكافئة قائمة على أساسه. وهذا هو أكثر ما يثير انزعاج المصريين الذين شعروا بمهانة من جراء سياسة بلادهم تجاه إسرائيل التي ما أن وقعت المعاهدة، التي تحث في ديباجتها على إقامة سلام شامل في المنطقة، حتى أطلقت العنان لآلتها الحربية لتدمير المفاعل النووي العراقي وشن غزوات وحروب متوالية ضد لبنان وتوسيع ممارسات إرهاب الدولة ضد الفلسطينيين في الداخل والخارج. غير أنه إذا كان بعض المصريين يرفضون وجود معاهدة مع إسرائيل من أساسه، فالأرجح وفق المعطيات والشواهد الراهنة أن أكثرهم يعترضون بالأساس على تطبيقها من جانب واحد، وليس من الجانبين، مما أدى إلى علاقة غير متكافئة تراجع بسببها دور مصر وتقلصت مكانتها. يعترض معظم المصريين على سياسة خارجية صغَّرت دولة كبيرة أكثر مما يرفضون المعاهدة في حد ذاتها، ولا يعترضون على السلام بشرط أن يكون حقيقياً ومتبادلاً وقابلاً للتعميم في المنطقة ومؤدياً إلى حل معقول لقضية فلسطين. وربما يجوز القول إن موقف معظم المصريين تجاه هذه القضية يعبّر عن روح مشروع السلام الدائم الذي أعده الفيلسوف التنويري الألماني كانط في آخر القرن الثامن عشر، رغم أنهم لم يطلعوا عليه. فالمادة التمهيدية في هذا المشروع تقول: "إن معاهدة من معاهدات السلام لا تعد كذلك إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب في المستقبل... وإلا أُفرغت المعاهدة من مضمونها". فالأمر، إذن، قد لا يتوقف على رغبات "الإخوان المسلمين" أو غيرهم من القوى السياسية المصرية، بل على نوايا إسرائيل في الفترة المقبلة. وهذا هو أكثر ما يثير قلقها لأنها لم تنو أبداً إقامة سلام حقيقي مع المصريين أو الفلسطينيين أو غيرهم من العرب.