ظننت أنني بعد أن قمت بتأصيل مفهوم "العجز الديمقراطي" كما يستخدم اليوم في علم السياسة المقارن، أستطيع أن أنتقل للحديث عن مظاهر وأسباب وتفسير العجز الديمقراطي العربي. غير أنني بعد تأمل طويل أدركت أن المسألة لا تتعلق بالعجز الديمقراطي في حد ذاته، أي الافتقار إلى مقومات أساسية للديمقراطية، بل إننا في الواقع إزاء أزمة مجتمعية شاملة. وحين نقول أزمة مجتمعية فنحن نعني أنها تتعلق بالمجتمع ككل وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والقيمية والثقافية. أي أننا أمام معضلة حقيقية تتعلق بسلوك النخبة السياسية وسلوك الجماهير أيضاً، في سياق اجتماعي وثقافي يسوده الفقر والأمية والاستغلال، بما أدى إلى ظاهرة الاغتراب الواسع المدى، وتدهور الروح المعنوية للجماهير، وسيادة اليأس بين صفوفها، بعد أن تردت أوضاع الأحزاب السياسية المعارضة، التي كانت كفيلة لو قامت بأدوارها بفعالية أن تدافع عنها وعن مصالحها الطبقية. ولعل التطورات السياسية بالغة الأهمية التي حدثت في النظام السياسي المصري تمثل بكل ما دار فيها حالة دراسية نموذجية، تبرز الحقيقة التي أشرنا إليها وهي أننا إزاء أزمة مجتمعية شاملة، وليس مجرد عجز ديمقراطي يمكن أن يزول، لو قضينا على الملامح السلطوية للنظام السياسي الراهن. وما حدث قد يجد بدايته في المبادرة التي أقدم عليها مبارك حين أرسل خطابه الشهير إلى كل من مجلسي الشعب والشورى طالباً تعديل المادة 76 من الدستور، حتى تكون الانتخابات الرئاسية التي تتعلق باختيار رئيس الجمهورية تعددية، بمعنى أنها لا تقوم على أساس الاستفتاء الشعبي بعد أن يسمي مجلس الشعب مرشحاً بأغلبية الثلثين، كما كان ينص النص القديم للمادة 76، وإنما يفتح الباب لانتخابات رئاسية تعددية لأول مرة في التاريخ السياسي المصري. ومما لا شك فيه أن تعديل المادة 76 قد أحدث حالة من الحراك السياسي غير المسبوق في التاريخ السياسي المعاصر. فقد أدى إلى إقدام كل الأحزاب السياسية المصرية -على رغم التفاوتات الضخمة في قوتها الجماهيرية- إلى ترشيح مرشحين لها للتنافس مع رئيس الجمهورية الذي نزل الانتخابات باعتباره مرشحاً للحزب الوطني الديمقراطي. وذلك لأن تعديل المادة سمح للأحزاب السياسية المصرية كلها -هذه المرة فقط- بأن ترشح مرشحيها للرئاسة من بين قادتها بدون أية قيود، في الوقت الذي وضعت فيه قيود صعبة أمام المستقلين، تكاد تكون شروطاً تعجيزية. وبغض النظر عن التفصيلات فقد جرت الانتخابات الرئاسية فعلاً بين مرشحين متعددين وفاز فيها -كما هو معروف- مبارك بأغلبية تدور حول 80 في المئة من أصوات الناخبين. وأعقبت ذلك -طبقاً للدستور- دعوة الناخبين إلى الانتخابات النيابية لاختيار أعضاء مجلس الشعب. وهذه الانتخابات بالذات يمكن اعتبارها حالة دراسة نموذجية للأزمة المجتمعية التي تحدثنا عنها في صدر المقال، والتي تتجاوز بكثير مشكلة العجز الديمقراطي. فقد تجمعت في هذه الحالة بالذات عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحتاج إلى دراسة شاملة. ولنبدأ بالعوامل السياسية أولاً. فيما يتعلق بسلوك النخبة السياسية الحاكمة ظهر بكل جلاء أنها لا تقبل ببساطة مبدأ تداول السلطة. ولعل ذلك ظهر جليّاً وواضحاً في الصياغة الدستورية المانعة للمادة 76 من الدستور، التي اشترطت بالنسبة للأحزاب السياسية في الانتخابات الرئاسية القادمة أن يحصل الحزب على نسبة 5 في المئة من الأصوات حتى يكون من حقه ترشيح أحد قياداته للانتخابات الرئاسية. أما بالنسبة للمستقلين فعلى كل من يرغب منهم في ذلك أن يحصل على توقيع 250 شخصاً من أعضاء مجلسي الشعب والشورى وأعضاء المجالس المحلية في إحدى عشرة محافظة حتى يسمح له بالتقدم إلى الترشيح. وبغض النظر عن صياغة المادة 76، فقد أعلن قادة الحزب الوطني الديمقراطي في بداية الانتخابات أنهم حريصون على تحقيق أغلبية مطلقة "مريحة"، حتى يمرروا تشريعات الإصلاح الدستوري والسياسي التي يريدون تقديمها لمجلس الشعب بغير مشاغبات من أحزاب المعارضة. ودارت المعركة في ظل هذا التوجيه الذي أثر ولاشك على العنف الشديد غير المسبوق الذي ظهر في الانتخابات التي دارت في مراحلها الثلاث المختلفة. أما أحزاب المعارضة المفككة فقد دخلت المعركة بغير إعداد مسبق، محرومة من قواعد جماهيرية متماسكة، بحكم حالة الضعف الشديد التي انتابتها نتيجة التضييق على نشاطاتها الحزبية من ناحية، وبحكم مشكلاتها الداخلية من ناحية أخرى، التي تتمثل في شيخوخة القيادات، وعدم قدرتها على التطور، والقضاء على الديمقراطية الحزبية، والانفراد باتخاذ القرار داخل كل حزب، والتضحية بأجيال الوسط من الشباب، الذين لديهم القدرة على تجديد شباب الأحزاب. وإذا كان ما سبق عينة صغيرة من سلوك النخبة السياسية، سواء منها نخبة الحكم أم نخبة المعارضة، فإن موقف الجماهير في هذه الانتخابات كانت له دلالات بالغة الأهمية. وكانت أهم هذه الدلالات مقاطعة الجماهير في أغلبيتها العريضة للانتخابات. ذلك أن النسبة المتفق عليها لمن شاركوا في التصويت لا تزيد عن 25 في المئة إلا قليلاً، ومعنى ذلك أن ظاهرة اللامبالاة السياسية وصلت إلى أقصى آمادها، لأن الأغلبية العظمى من المصريين نتيجة عوامل متعددة، أهمها الافتقار إلى المصداقية للعملية السياسية كلها بما فيها الانتخابات، جعلتها تحجم عن المشاركة. وفي تقديرنا أن أحداث العنف الحادة التي سادت الانتخابات ومن بينها استخدام "البلطجة" من قبل كل الأطراف بطريقة منهجية، أدت إلى إفساد العملية الانتخابية في عديد من الدوائر، مما أدى إلى ترسيخ ظاهرة اللامبالاة السياسية. أما عن العوامل الاقتصادية فحدث ولا حرج! فقد اجتمع عامل الغنى الفاحش مع عامل الفقر الشديد، لكي يؤثر تأثيراً حاسماً على نتيجة الانتخابات. وقد دفعت ظاهرة الفقر الشديد جماهير عديدة إلى قبول الرشاوى الانتخابية، مما يعني عدم اعتدادها أصلاً بمسألة الاختيار الحر المباشر للمرشحين في ضوء برامجهم السياسية التي ستحقق مصالح الناس. غير أن العوامل السياسية والاقتصادية ليست سوى المقدمة لهذا الزحف غير الديمقراطي على العملية السياسية. وأمامنا العوامل الاجتماعية التي تتمثل أساساً في سيادة القبلية والعصبيات وخصوصاً في المناطق الريفية حيث الولاء أساساً ليس للحزب السياسي، وإنما للقبيلة أو العصبية. وتبقى أخيراً العوامل الثقافية، التي من أبرزها ظهور طاقات مكبوتة من العنف الشديد أدت إلى استخدام "البلطجة" والأسلحة البيضاء، وفي بعض الأحيان الأسلحة النارية، لفرض مرشحين معينين. وإذا أضفنا إلى ذلك اعتماد التزوير في بعض الدوائر وسيلة لفرض مرشحين معينين، فسندرك أننا أمام أزمة ثقافية عميقة. ثم جاءت انتخابات مجلس الشورى الأخيرة وتلتها انتخابات مجلس الشعب، التي كانت تزويراً فاضحاً خطط له الحزب الوطني الديمقراطي لكي يستبعد المعارضة تماماً. وقد أدى هذا إلى انسداد الآفاق الديمقراطية أمام الشعب المصري بكل طوائفه، وبذلك وصلت الأزمة المجتمعية إلى منتهاها، وانفجرت ثورة 25 يناير 2011، التي بدأت كحركة احتجاجية شبابية، وسرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية شاملة. ولو تأملنا تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية فسندرك أن الشعب المصري قرر أن يعيد صياغة نظامه السياسي ليصبح ديمقراطيّاً حقيقيّاً، وأن يتجاوز سلبيات سلوكه الاجتماعي وممارساته الثقافية، لكي يحرص كل مواطن على صوته في أي انتخابات قادمة، على أساس أن الشعب هو الذي سيخلق صورة مصر الجديدة.