على مدى نحو عقدين من الزمن انهزم الإيديولوجيون تباعاً، وكادوا يتخلون عن أحلامهم وطموحاتهم. وكان أحد هؤلاء فرانسيس فوكوياما، الذي تنبأ، أو على الأقل نظّر، للكيفية التي يمكن أن تسود بها الليبرالية ويأتي "الإنسان الأخير"، فيما أسماه "نهاية التاريخ" حيث تنتهي الإيديولوجيات الشمولية. ولكن فوكوياما، لم يكن من أكبر الإيديولوجيين المعاصرين فحسب، بل ومن أسرعهم انسحاباً، فقد ارتد عن أفكاره على وقع أحداث العراق، وكتب مقالات وكتباً يدعو فيها للعودة لفكرة بناء الدولة وتقوية مؤسساتها قبل بدء الديمقراطية. فهل يراجع أفكاره الآن مجدداً؟ يصعب أن يتقبل الجمهور ذلك منه. ولكن من قرأ "نهاية التاريخ" عام 1991 ثم لم يقرأ ما كتبه فوكوياما، في السنوات الأخيرة، سيرى على وقع التغيير في دول عربية، أنّه كان صاحب رؤية ثاقبة، وقد يقول إنه إذا كانت مصر محطة أساسية في بدايات تاريخ البشرية، فإنّها كما يبدو جزء أساس في نهايته. ولا يقف الأمر عند الليبراليين، بل لقد امتد إلى أصحاب إيديولوجيات ربما انتهت عربيّاً، وجد أصحابها في مصر وتونس هواءً يملأ صدورهم ويحيي ما كان يوماً "خيالًا هوى". ومن هؤلاء على سبيل المثال، الفوضويون "الأناركست"، ولهم في عالمنا العربي أنصار لا يعرفهم الجيل الجديد، ولكنه قد يعثر عليهم إذا بحث عما كتبه عرب عن الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968، وسيجده في حركات "الهيبيين"، وهؤلاء لم يكونوا دون تأثير في الشباب العربي. ومن كان عنده يوماً حب لهؤلاء رأى بعض حلمه يتحقق في ميدان التحرير، كما قال لي باحث مرموق من مصر. قال إنّ فكرة "اللادولة"، وهلامية الحركة والقيادة، مع الاندفاع الشديد بدت كما لو كانت تحققت في ثورة 25 يناير. هؤلاء أيضاً فكرتهم أقرب لنهاية التاريخ. حتى أن الشيوعيين والاشتراكيين نظّروا لفكرة أنّ الوضع المادي الضاغط والفقر وحركات العمال على مدى سنوات حفزت ثورتي مصر وتونس. والفكرة الشيوعية تتحدث أيضاً عن "ديالكتيك" يؤدي إلى نهاية التاريخ بوصول مرحلة تغيب فيها الدولة، على رغم أنّ الشيوعيين أوجدوا أشد أنواع الدول شمولية عندما حكموا. أما قوى الإسلام السياسي فتبدو في انكماش بعد أن اضطرت للاعتراف بأنّها ليست المحرك للشارع، ولم تقده، وأنّها في أحسن الأحوال مشارك نشط، ضمن آخرين. ولكن هذه القوى ترى فيما حدث فرصة للعودة للميدان السياسي. وهذا واضح في سرعة حراكها لتشكيل أحزاب تعبر عنها في مصر. بل وهناك خوف مبرر من مراقبين أن تلجأ هذه القوى، كما فعلت في السابق، للتحالف مع العسكر، والحكومات المحافظة، في مواجهة قوى تحررية أخرى، قبل أن تنقلب طبعاً على حلفائها، أو ينقلب حلفاؤها عليها، تماماً كما فعل في الماضي علمانيون ادّعوا أفكاراً يسارية مختلفة. وبكلمات أخرى، لم يكن هناك فكر واضح ولا قوى حزبية في حراك الشارع. ولكن لا يمكن القول إنّه حراك غير مسيّس، ومن الواضح أنّ كثيرين تداعبهم خيالات تحقق ما قد كادوا يفقدون الأمل في حصوله. والخشية أنّ هذا سيكون تجديفاً ضد حركة التاريخ، التي تمضي إلى أنماط جديدة من التفاعل السياسي عما عشناه في السابق وتعريفات جديدة للقيادة ولأطر العمل السياسي.