حين كان الناس يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، خطر في بال بعضهم أن السيف سيحل المشكلة أسرع، فقالوا: يا رسول الله مرنا فلنمل على أهل منى بأسيافنا؟ فأجاب: لم نؤمر بقتال بعد. ونزل قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة". لكن هذا التكتيك الحصيف له خلفية نفسية عجيبة، عند عربي اعتاد الحرب والضرب والنهب والسبي. لماذا رفض الرسول المُلكَ حين عرضت عليه قريش ذلك؟ ولماذا كان أصحابه يُقتلون ويُعذَّبون وهو يقول لهم: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة؟ لقد نزل القرآن يقول: "ولقد كُذِّبتْ رسلٌٌ من قبلك فصبَروا على ما كذِّبوا وأُوذُوا حتى آتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين". إنها خطة عمل وخريطة طريق وليست كسلاً ولا خوفاً، فهنا الروح مستيقظة وهنا بعدٌ أخلاقي تاريخي في التغيير. ليس فقط في ولادة المجتمعات والثورات الروحية، بل في صيانتها أيضاً، وهو ما فقدناه منذ نهاية الخلافة الراشدة. ولم تأت من فراغ أيضاً قصة المسيح وهو يُلقَى عليه القبض بينما يحاول بطرس الدفاع عنه فيستل السيف، فيقول له: أغمدْ سيفك يا بطرس ولا تدافع عني لأنه مكتوب من أخذ السيف بالسيف يهلك. وصبرت المسيحية ثلاثة قرون عدداً، وهي فترة الحضانة والتشكل لولادة المسيحية من رحم التاريخ كما تحدث القرآن في سورة كاملة أعطاها اسم "الكهف" عن أولئك الفتية الذين آووا إلى الكهف "وقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططا". وها قد ولدوا من جديد، ورأيناهم في تونس وليبيا ومصر، وهم يصنعون التاريخ ويناجزون الطغيان ويموتون بابتسامة دون أن يقتُلوا أو يمدوا أيديهم بالقتل بل مُعرِّضين صدورهم لاستقبال رصاص الطغيان. إنها ثورة أخلاقية وولادة للإنسان العربي الجديد. لماذا تجرّع سقراط السم ولم يهرب، وقال: ليس العار أن تموت بدون ذنب، لكن العار أن تهرب من الذي هو العار. قالت زوجته كزانتبي: ولكنك تموت وأنت بريء، فأجاب مبتسماً: متى تتعلمين يا كزانتبي، وهل يرضيك أن أُعدم مُداناً؟ هذا الانفجار الأخلاقي يتم الآن في العالم العربي بغير وعي كما حدث سابقاً مع ثورات أخرى. إنه نموذج الأعمى الذي أمسك بعصا على غير هدى وتصميم، إنها عبقرية الإنسان في اجتراح الحلول. لقد ناديت أنا وجودت سعيد منذ ثلاثين سنة بهذه الفكرة، وأذكر كيف كان الناس يضحكون من سذاجتنا في أسلوب التغيير، ويقولون: أنتم تعطلون غريزة الدفاع عند الإنسان، أنتم ضد الطبيعة الإنسانية، حتى القطط والجرذان تدافع عن نفسها. أنتم تسلمون رقابنا للطاغية فينحر ولبني صهيون فيفتكون، أنتم ضد كل شيء بل أنتم مجانين! واليوم يأتي الخبر من الشارع؛ إنها طريقة اقتصادية وفعالة جداً لاجتثاث الطغيان. ليس هذا فقط، بل لصيانة الثورة والمحافظة على زخمها كذلك. لقد تأخر العالم العربي نصف قرن مع حمى الانقلابات العسكرية حتى فك الله السحر. قل أعوذ بالله من شر الرفاق إذا حسدوا وفقدوا عقولهم وهم يرون الزلازل والبراكين في تونس ومصر ليبيا.