استهلُ المقال بالرحمة على أرواح من سقطوا في تظاهرات الخبز والكهرباء وضد الفساد برصاص الديمقراطية في أنحاء العراق كافة. وبالرحمة على روح عبد المحسن السُّعدون (انتحر 1929) رئيس وزراء العراق لمرتين (1922، 1923)، وروح رئيس الوزراء (1947 -1948) محمد صالح جبر (ت 1957)، وكلاهما من أهل الناصرية، الأول كان سُنياً والثاني كان شيعياً. انتحر الأول لأنه لم يتحمل التهمة بما لا يليق بشرفه، وقال: "العراقيون يريدون والإنكليز يرفضون"! وسألتُ القاضي عبود الشَّالجي (ت 1996)، وكان كاتب محضر جلسة البرلمان التي انتحر إثرها، هل قالها؟! أجاب بنعم. واستقال الثاني عقب هياج جماهيري اجتاح بغداد غضباً ضد معاهدة "بورتسموث" (15 يناير 1948)، والتي جاءت تحضيراً لما بعد معاهدة 1930. اشتهرت ببورتسموث نسبة لمكان توقيعها، ولم تُسمَّ رسمياً بهذا الاسم، فهناك معاهدة حملت الاسم نفسه عُقدت بين الحلفاء واليابان (السُّويدي، مذكراتي). ليس جبر، في زمانه، وحده رضخ لإرادة الناس، على الرغم من أنه يرى ما فعله كان حقاً، بل العديد من رؤساء الوزارات والوزراء استجابوا واحتفظوا بماء الوجه. لا أظن أن التُّهم الموجهة إلى المالكي كانت أقل إيذاءً مما سمعه السعدون وفضل كرامته، ولا حشود يناير 1948 أكثف من حشود 25 فبراير 2011، ولا المطالب أبلغ. بل إن الأجدر بقادة حزب الدَّعوة الإسلامية ككلٍّ عقد اجتماع طارئ والاعتراف للشعب بما حصل ويحصل، وفتح الملفات الكبرى. صحيح أن "الدَّعوة" لم يكن المسؤول الوحيد عمَّا يجري إنما النظام السياسي برمته، لأنه شُيد على المحاصصة، لكن رئاسة الوزراء لسبع سنوات بيد الحزب المذكور وما زالت، لذا وجب تقديم البراءة مما وجه من تهم لشخوصه ببغداد والمحافظات مثل: "كذاب كذاب نوري المالكي"! أو "نهبتوا بيوتنا كلكم حرامية" وسواها! كان القابعون بالمنطقة الخضراء، وهم في المعارضة، يعدون حشوداً مثل حشود 25 فبراير نضالاً ضد السُّلطة، ويحرضون الناس على ملاقاة رصاصها بصدورهم، ويعدون من كان في سجون النظام السابق مناضلين شرفاء، تأجيجاً للثَّورة ضده. لم يميزوا بين المحبوس لرشوة، أو لقتل عمد، والمحبوسين السياسيين وما أكثرهم آنذاك. فحتى الذين أطلقهم صدام حسين (أعدم 2006)، قُبيل اجتياح بغداد، كانوا يُعدون مناضلين، لكن بعد تسنم السُّلطة اعتبر إطلاق سراحهم جريمة، فهم قتلة وقُطاع طُرق! بدا خطاب المالكي الموجه من المنطقة الخضراء قُبيل انطلاق التظاهرات متعكزاً على المؤامرة، فحذّر ورَهَّبَ مِن استغلالها من البعثيين الصَّداميين و"القاعدة"! فرد الجمهور ببساطة لا تقبل تأويل: "لا قاعدة ولا بعثية نحن أهل الدِّيوانية". فلو امتلك القابعون بالخضراء جبروت سيدها السَّابق ما تأخروا عن سحق المتظاهرين بذريعة حماية العراق مِن الصداميين! بينما الأخيرون كانوا يدعون بإرهابهم حماية البلاد مِن الرجعيين الخونة! أترون كيف تتداول الأيام تداولها الخُرافي؟ كنا نخشى أن تتصل ديمقراطيتنا بدكتاتورية السابقين عبر حبل التكالب على السُّلطة، وقد حصل هذا فديمقراطية مع شراهة الفساد (ضياع أربعين مليار دولار) وخيانة لقوت الفقراء لا أظنها مفصولة عن ديكتاتورية قامعة لكن قل فيها الفساد وحمت البطاقة التموينية "قوت الفقير"! أقول: "فالدَّهر آخرهُ شبهٌ بأولهِ.. ناسٌ كنــاسٍ وأيامٌ كأيامِ" (التَّوحيدي، الذَّخائر والبصائر). يوماً بعد آخر تتجسد المنطقة الخضراء رمزاً لا للدكتاتورية مثلما كانت، بل لِما هو أكثر خجلاً: خيانة الفقراء بنهب قوتهم، وكأن النازلين الخضراء نزلوها عطاشى جائعين. بلا أدنى خجل بث الإعلام الذَّي يُسمَّي نفسه بالمستقل، الفضائية "العراقية" تحديداً، وهي المشيدة بأموال العِراقيين وعلى حساب الأرامل والأيتام بمبالغ خيالية، مقابلات لمستشارين ومسؤولين نفوا وجود الفساد، وكذبوا رشق الرَّصاص على أجساد المتظاهرين وتهديد الطَّائرات العمودية ضد أُناس لا يملكون سوى الصُّراخ. إن قناةً تُقدم المنتفعين كشهود زور أمست عاراً على "النِّظام الجديد". لم يمنح رئيس الوزراء، ولا القابعون بالمنطقة الخضراء جميعاً، الحق للعراقيين بالتظاهر، إنما هي الحقوق والواجبات داخل نظام قيل إنه ديمقراطي. لكنهم أرادوا لهذا الحق الصُّوري على ما يبدو تنفيساً لزفرات الغاضبين وكفى، أو زينة يتزين بها نظام المحاصصة، مع استعداد القوات الخاصة للقمع خشية هتك بوابات الخضراء. وبالفعل أغلقت التَّرسانات الكونكريتية الهائلة جسر الجمهورية المؤدي جهتها الشمالية. إن لذلك المكان اعتباراً تاريخياً، يبرر لساكنيه التمسك به، فهو رمز النعمة والسُّلطة ببغداد على مر الأعصر منذ العهد العباسي وما قبله. اختير مكاناً لتشييد القصر الملكي، ولم يهنأ به الشَّاب فيصل الثَّاني (قُتل 1958)، ثم صار الجمهوري، وكان أول ساكنيه عبد السَّلام عارف (قتل 1966)، ثم أخوه عبد الرَّحمن (ت 2007)، ثم البكر (ت 1982) فصدام. ومِن عهد الأخير تحولت المنطقة إلى ثكنة للسًّلطة العليا. وبعد 2003 ظلت منتزعة مِن أهلها الاُصلاء، بل حصلت انتزاعات جديدة، فتحول ما لصدام للذوات الجدد، مع توسيع وتحصين مضاعفين. غاب اسم كرادة مريم مِن المكان وشاع ما أطلقه الأميركيون "الخضراء". والكرادة هم أصحاب الكرود، التي يُرفع بها الماء مِن دجلة لسقي البساتين العامر بها المكان قديماً، ومريم امرأة صالحة، من العهد العثماني، قيل إنها دُفنت هناك (رؤوف، الأُصول التَّاريخية لمحلات بغداد). وحسب الحموي (ت 626 هـ) يبدو مكان الخضراء كان معروفاً بطسوج بادوُرَيا. ولأهميته قال فيه كبير كُتاب الخلافة ابن الفرات أحمد بن محمد (ت 291 هـ): "مَن استقل مِن الكُتاب ببادوُرَيا استقل بديوان الخراج، ومَن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة، وذلك لأن معاملتها مختلفة، وقصبتها الحَضرة، والمعاملة فيها مع الأمراء والوزراء والقُواد والكتاب والأشراف..." (معجم البلدان). ها هو جانب مِن طسوج بادوُرَيا (المنطقة الخضراء) عادت تستقل بديوان الخراج وبالوزارة، وكان المعول أن تعود لأهلها مِن سكنة كرادة مريم، لا تُملك بعقود للمجاهدين. لا ندري ما سيحصل بين كتابة المقال (السبت) ونشره (الأربعاء)، فالحوادث متسارعة، والعراق يموج ويمور، ليس لطبيعة أهله الثَّائرة، بل لا يصبر النَّاس وهم يرون بادوُرَيا عادت ملكاً لسلاطين جُدد كسبوا الجولة بالمظلوميات وهي كثيرة! ليس في زمن المعتضد بالله (ت 289 هـ) وكاتبه ابن الفُرات، إنما في زمن الدِّيمقراطية! أقولها محذراً: قد لا تكفي الدُّروع الكونكريتية حصانةً للخضراء مِن زحف محتمل!