قبل حوالي 42 عاماً أُعلن من إذاعة من بنغازي البيان رقم واحد لثورة الضباط الليبيين بقيادة العقيد معمر القذافي، ومن بنغازي أيضاً انطلقت شرارة الثورة الشعبية الليبية الحالية، والتي تبدو آخذة في الاتساع أفقياً وعمودياً لتشمل مزيداً من قطاعات المجتمع ومزيداً من مساحات الأرض. فخلال ثمانية أيام فقط، أي في الفترة بين 17 فبراير الجاري حين تجمهر عشرات المحامين والقضاة في ساحة المحكمة ببنغازي، وبين الخطاب الذي ألقاه القذافي يوم الجمعة الماضي أمام مؤيديه في الساحة الخضراء بطرابلس... حدَث في ليبيا ما لم يكن مرةً في حسْبان أحد، حتى أكثر الحالمين من معارضي القذافي، حيث خرجت المظاهرات في معظم المدن الليبية مطالبة بإسقاط النظام، وقام المحتجون بإحراق وتدمير مقار اللجان الثورية، وبتحطيم مجسمات الكتاب الأخضر، وإزالة صور القذافي نفسه. ورغم ضراوة القمع الذي تعرض له المحتجون على أيدي قوات الكتائب الأمنية، فقد تخطوا حاجز الصمت وتحرروا من قبضة الخوف نهائياً؛ فسقطت العديد من المدن تباعاً في أيدي الثوار، ولم تعد للنظام سيطرة عملية إلا على مدينتي سرت وسبها وأجزاء من طرابلس حيث يوجد باب العزيزية، المقر الحصين للقذافي وعائلته. وبين الأمس واليوم رحلة طويلة مرّ خلالها القذافي، ومعه ليبيا بالطبع، على محطات ومنعطفات صاخبة لم تخل من مفاجآت ودماء وإنجازات، كان القذافي في معظمها الثائر المندفع وصاحب التوجهات والمواقف والطروحات المثيرة. متأثراً بأجواء المد القومي الذي كان سائداً في المشرق العربي خلال ستينيات القرن الماضي، قام الملازم أول معمر القذافي بإنشاء تنظيم سري داخل الجيش الليبي سماه "حركة الضباط الوحدويين الأحرار"، تيمناً بالتنظيم العسكري الذي أطاح بالملكية في مصر، لينفذ انقلابه الأبيض في 1 سبتمبر 1969 انطلاقاً من مدينة بنغازي، حيث قام باحتلال إذاعتها وقراءة البيان الأول لما سيصبح لاحقاً "ثورة الفاتح من سبتمبر"، بينما قام زميله الخويلدي الحميدي بمحاصرة القصر الملكي وإجبار نائب الملك وولي عهده على التخلي عن الحكم، أما الملك إدريس السنوسي نفسه فكان في رحلة إلى تركيا للعلاج. ويومها أُلغيت الملكية في ليبيا وتحولت إلى جمهورية، وأُلغي الدستور والأحزاب السياسية وحرية الصحافة، وأصبح القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة والقائد الأعلى للقوات المسلحة. ثم قام نظام الحكم الجديد بإجلاء القواعد الأجنبية، الأميركية والبريطانية، من التراب الليبي، إضافة إلى تغييرات كبيرة في البنية القانونية والإدارية سعياً لتكرس الخيار الاشتراكي في الاقتصاد، وتحت شعار "القرآن شريعة المجتمع". وكانت تلك التغييرات بمثابة إرهاص أولي لما سيسميه القذافي لاحقاً "النظرية العالمية الثالثة"، وقد ضمّنها في كتابه الأخضر الذي تحولت بموجبه ليبيا، في عام 1977، من جمهورية إلى جماهيرية تدار وفق نظام المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، حيث استقال القذافي نفسه من جميع مناصبه ليتفرغ لقيادة الثورة. وقد ترافق ذلك التحول مع تصفيات واسعة ضد معارضي النظام في الجامعات والمصانع والشركات. وخارجياً كان القذافي خلال الحرب الباردة حليفاً للاتحاد السوفييتي، بينما وصلت علاقته بالولايات المتحدة إلى ذروة التوتر حينما قصفت مقره (باب العزيزية) في طرابلس عام 1986، رداً على اتهامه بتفجيرٍ استهدف ملهى يرتاده عناصر البحرية الأميركية في ألمانيا الغربية. وخلال تلك السنوات قدم القذافي الدعم لكثير من الحركات الثورية في أنحاء العالم، وحاول إقامة نوع من الوحدة العربية الثنائية أو الثلاثية مع كل من مصر وتونس والسودان وسوريا والمغرب، لكنها باءت كلها بالفشل... وكان القذافي يعلل ذلك بخضوع شركائه في الوحدة لإرادة واشنطن المهيمنة. وعقب حادثة لوكربي عام 1988، تطور الموقف مع واشنطن إلى فرض عقوبات قاسية من مجلس الأمن الدولي ضد ليبيا، استمرت من عام 1992 إلى غاية عام 2000، وعانت جراءها ليبيا عزلة اقتصادية وسياسية خانقة. تجربة الحصار الدولي، وفشل التجارب الوحدوية العربية، عاملان دفعا بالقذافي إلى التوجه بجهوده الوحدوية نحو إفريقيا بدلاً من الأمة العربية؛ فعمل ما بوسعه من أجل إقامة الاتحاد الإفريقي على أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية، وقد نجح في ذلك، لكنه أخفق في الترويج لفكرتي الولايات المتحدة الإفريقية، وإقامة جيش إفريقي واحد. وقد وجد التوجه الإفريقي الجديد تعبيراته الواضحة في السياسة العامة الليبية، وفي الأسماء التي بدأت تطلق في ليبيا على المعالم والمرافق والرموز الرسمية، بل حتى في لبس القذافي شخصياً، والذي أضاف لقباً جديداً إلى ألقابه القيادية الكثيرة، ألا وهو "ملك ملوك إفريقيا". ولد معمر القذافي لوالده محمد عبدالسلام أبو منيار القذافي ببادية سرت عام 1942. وفي سن السادسة أرسله والده إلى مدينة سرت للالتحاق بالمدرسة الابتدائية، ثم انتقل إلى سبها في الجنوب، حيث تلقى تعليمه الثانوي والتحق بالقوات المسلحة. تزوج معمر من فتحية خالد وأنجب منها ابنه البكر محمد، لكنه سرعان ما طلقها ليتزوج الممرضة صفية فركاش التي له منها سبعة أبناء، أكبرهم سيف الإسلام الذي كان ينظر إليه حتى وقت قريب على أنه خليفته المحتمل على رأس الحكم في ليبيا. وفي الأيام الماضية الأخيرة تعاقب القذافي الأب والقذافي الابن على توجيه خطابات للشعب الليبي، تراوحت بين الوعد والوعيد، بين الاستجداء والتهديد، كما تضمنت التلويح المتكرر داخلياً بالورقة القبلية، وخارجياً بالبعبع الإسلامي. ورغم أن القذافي صاحب أطول فترة حكم لليبيا منذ أن أصبحت ولاية عثمانية عام 1551، فقد دأب على القول بأنه ليس رئيساً ولا ملكاً ولا سلطاناً ولا إمبراطوراً، لكنه عملياً يُعتَبر وحده صاحب القرار في ليبيا، وهو من يمثلها في اجتماعات القمم. وإلى ذلك يقول معارضوه إن أبناءه الثمانية وحدهم من يمسك بالمفاصل الحيوية للدولة الليبية، لاسيما في مجالات الأمن والجيش والاقتصاد وكبريات شركات النفط والاتصالات والبنوك والمصانع والفنادق والبنية التحتية. وقبل عامين تم "اختيار" سيف الإسلام لمنصب منسق عام القيادات الشعبية بغية تمكينه من امتلاك "الصلاحيات اللازمة لممارسة دوره في بناء ليبيا الغد". لكن ها هي "ليبيا الحاضر" تضطرم بمحصلات الـ42 عاماً المنقضية من حكم والده؛ بقلاقل كاسحة كان منطلقها هذه المرة أيضاً بنغازي! محمد ولد المنى