طلب الرئيس الأميركي في أغسطس الماضي 2010، حسب ما ذكرته تسريبات موقع "ويكيليكس" من أجهزته الاستخبارية تقارير عن (إمكانية) قيام ثورات وهزات شعبية في العديد من بلدان الشرق الأوسط ومن ضمن هذه الدول مصر وبعض الدول العربية التي تشهد حاليّاً مظاهرات واعتصامات. لم توضح التسريبات "السرية" لبرقيات الدبلوماسية الأميركية هل تلك التقارير تتحدث عن احتمالية قيام الهزات الشعبية أو المشاركة فيها واحتضانها؟ الفرق كبير بين المفهومين، أما أنا فأميل إلى أن تربة وبذور ما حدث ويحدث شعبيّاً كانت داخلية، أما السقيا والتسميد والعناية فكانت غربية أميركية خالصة، ولكن السؤال المهم الذي لابد أن صانع القرار الغربي قد طرحه على أجهزته: ماذا بعد النجاح الكلي أو الجزئي للتحركات الشعبية "المتوقعة"؟ من سيقطف ثمار النجاح الشعبي وسقوط الأصدقاء... السابقين؟ الأكيد أن الولايات المتحدة قادرة جدّاً أن تصنع الفوضى، ولكنها لن تستطيع أبداً جعل هذه الفوضى خلاقة... كما تريد، إلا أن تكون الفوضى بحد ذاتها هي المطلوبة لإشغال الوطن العربي في همومه الدامية. إلا أن مصطلح الفوضى الخلاقة لم يأت عبثاً، فالمقصود أن يظهر بعد اشتعال الصراع الداخلي في كل الدول العربية تقريباً وضعٌ تتشكل فيه حكومات عربية لا ترفع كما قال "فريدمان" الصحفي الأميركي الشهير شعارات مثل "الموت لإسرائيل"، بل شعارات أخرى كما يرفعها سكان الولايات المتحدة أثناء الأزمات المالية، أو سكان بريطانيا خلال ارتفاع أسعار "المترو" أو البطاطس، أي الأمور الحياتية إضافةً إلى مشاغل عديدة مثل بنود الدستور التي تنص -أو لا تنص- على دين الدولة وحقوق المرأة والأقليات... إلخ. الفوضى التي تريدها أميركا هي فوضى تُولّد شرقاً أوسط جديداً علمانيّاً منفتحاً حسب التصور الغربي لا تشغله الهموم القومية أو الدينية ويُسيِّر شؤونه أصحاب الياقات البيضاء التي تعلمت مباشرة في الجامعات والمعاهد الغربية أو بالوكالة عبر قيم التواصل الإلكتروني، جيلٌ تأتي حرياته الشخصية قبل مسألة الجدار الفاصل في فلسطين، والعدالة الاجتماعية وكل حقوق الإنسان قبل الاحتجاج الصاخب جدّاً على القواعد الأميركية، والحراك الطبقي الـمُيسر قبل الإلحاح على مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين وتقرير مصير القدس. ولكن نتائج الفوضى ليست كلها -مثل البداية- في أيدي صُناعها. فها هي أفغانستان سنة 2014 بعد انسحاب الجيوش الأميركية والحلفاء الآخرين منها، ستسقط حتماً في أيدي "طالبان"، أي "طالبان" قبل أكتوبر 2001! وستعود النساء الأفغانيات إلى الشادور وستمنع الـمُباحات في عهد من نصبهم الغرب. أما العراق فهو كما ترون بلد لا يعرف أن يشكل وزارة واحدة، ولا أن يسمي وزيراً، وتتخاطفه جيوش "القاعدة" والبشمركة ومليشيات الطوائف، ويئن من انعدام الثقة والشفافية وتفشي الغلاء وانقطاع الكهرباء والماء، وربما لا يقاس بما كان عليه الحال قبل 21 مارس 2003! أما مصر فيكفي أن تسترجع خطبة القرضاوي في ميدان التحرير ودفعهم لرأس جيل "الفيسبوك" بعيداً عن منصة الخطابة، حتى لا يتعكر مشهد زعيم الجماعة التي ستحكم مصر وهو يقرر ماذا على الجميع فعله مستقبلاً. أما تونس فكل شيء متوقف فيها في انتظار من يخرج من رحم الغيب، ولا يبقى إلا أخبار مقاتل القسس المسيحيين ومهاجمات معابد اليهود هناك وتظاهرات ضد كل شيء مع وعود بـ"منحة" أوروبية لإنعاش الاقتصاد التونسي بمبلغ (20) مليوناً (عشرين مليون يورو لا غير)! أما في اليمن فالفوضى آخذة في النمو المتصاعد داخل بلدٍ يمتلك كل فرد فيه رشاشاً أو قاذفة صواريخ! أما تطاحن الشيعة والسنة في بلدان هنا، والقبائل مع غيرها في بلدان هناك، فمسألة مشاهدة وملموسة ولا تحتاج لعود ثقاب واحد لتنتشر في البلدان المعنية وفي الجوار. هكذا ستكون الفوضى في بداياتها أما النهايات فإنني غير متأكد كيف رسم المخططون الغربيون أشكالها المختلفة. الأكيد أن هؤلاء المخططين سيضعون في اعتبارهم سلامة ثلاثة أشياء أو خطوط حمراء، أولها الطاقة... النفط، فالتعامل اليومي بل كل ساعة مع الشأن المصري يختلف عن التعامل البارد الباهت مع الشأن الليبي، ولا يعلل هذا إلا أن المشاعر الغربية مع حقوق الشعوب في الاختيارات يجب ألاَّ تقلب طاولة في وجه إمدادات النفط إلى المستهلكين، وبهذا فميدان التحرير الذي لم يشاهد فيه إلا البغال والحمير يختلف جدّاً عن آبار النفط الليبي؛ لقد قام العالم ولم يقعد بسبب هروات الأمن المركزي الخاص بالنظام المصري السابق، وخرج بيان باهت من مجلس الأمن والمذابح تتوارى أخبارها من ليبيا في كل ساعة... كيف نفسر هذا؟! وهذا لا يعني ألا يستبدل الغرب الاسم الحارس على النفط منذ أربعين عاماً باسم آخر، المهم أن تبقى إمدادات النفط آمنة وأسعاره محتملة. أما الخط الأحمر الثاني للمخطط الغربي فليس إلا الدولة اليهودية في فلسطين، كان المطلوب الأول من ثورة "الفيسبوك" كما أطلق عليها في مصر، هو الإقرار بالمعاهدات ومواثيق السلام... مع الجيران، أما حركة المصانع المصرية وأسعار القطن المصري ومشاهد الأهرام الشتائية السياحية فأمورٌ لا تشغل بال رجال الأمن القومي في واشنطن ولندن وباريس، ولا يهم هنا شعارات ترفع في هذا الميدان أو ذاك، أو مقال هنا أو هناك، الأهم هو أن تكون الجبهات مع العدو الصهيوني باردة نائمة كما كانت وكما هو متوقع، في ظل انكباب صناع القرار الجدد في العالم العربي على هموم الشأن الداخلي، يعدون خسائرهم ويسافرون شرقاً وغرباً لطلب المعونات والقروض، ويتعاركون مع كل جنيه وفلس ودينار حتى لا يختفي، ولمَ لا والجموع تنتظر المنَّ والسلوى والعيش الكريم بعد أن انقشع ظل سنوات الحكام السابقين. هكذا وعدت جماهير الشعوب، وبين الوعود والواقع ورجوع الغرب عن وعوده الاقتصادية كما هو الحال دائماً مع بؤر الاضطرابات في السابق، لن يكون هناك مجالٌ لأغاني وأناشيد وخطب الحروب ونقائض السلام. أما المسألة الأخيرة التي يشدد عليها صناع القرار في واشنطن وغيرها من عواصم العالم المتحكمة، فهي أن تبقى هذه المنطقة سوقاً كبيراً للمنتوجات والسلع الغربية من جهاز الـ (IPhone) وشرائح "البرغر" وحتى الطائرات الحربية التي لا تتعدى قدراتها التحليقية حدود الإقليم الوطني للمشترين. لقد بدأت منذ أواخر شهر ديسمبر 2010، أولى حلقات الفوضى في عالمنا العربي، ويبقى أن ننتظر بعد أن يتساقط البناء وينقشع الغبار إعادة الإعمار على أسس جديدة... إن بقي حجرٌ لم يفتت، وإن بقيت أيادٍ قادرة على حمل ووضع الأحجار... حسب الدليل المرشد للبناء والمعمار الجديد!