لقد اتهمت المجتمعات العربية بأنها مجتمعات تقليدية، تقدس الماضي، وتغفل الحاضر، وتنسى المستقبل. في حين أن المجتمعات الغربية مجتمعات تجديدية، تسعى نحو الحداثة بل وما بعد الحداثة. تقطع مع الماضي، وتوغل في الحاضر، وتسعى نحو المستقبل. وقد أثبتت الثورة المصرية، بعد الثورة التونسية في أقل من شهر، أن الوعي العربي قادر على الإبداع الثوري الفردي والجماعي، النخبوي والشعبي، وتجاوز النماذج الثورية المعروفة، الفرنسية والبلشفية والأميركية والصينية والتركية والأوروبية الشرقية. فلكل ثورة نموذجها الخاص، وإبداعها الأخص طبقاً لظروفها التاريخية وخصائص شعبها. بل إنها نجحت في تجاوز نموذجها الذي اتبعته هي نفسها منذ أكثر من نصف قرن بالثورة عن طريق الجيوش بقيادة "الضباط الأحرار". فالثورة كالفن والفكر والعلم إبداع، وأهم ما يميز الإبداع: الحدس المفاجئ، وعدم التوقع، والقفزة، والجدة والابتكار. قام بها الشباب الذي لم يرَ في حياته ثورة على مدى ثلاثين عاماً، بل انتفاضات وهبَّات شعبية وقتية مثل الهبَّة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، أي ضد العدوان الخارجي وليس ضد المعاناة الداخلية إلا حركة السادس من أبريل لعمال المحلة الكبرى ضد الفقر، واحتجاجات هنا أو هناك من حركة "كفاية" أو حركة 9 مارس ضد القهر ومن أجل الحريات العامة. ويضم الشباب جماهير الشعب وليس فقط النخبة السياسية للأحزاب على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، الشرعية والمحظورة. وكانت قيادات الثورة جماعية. ولم تكوِّن أمناء الثورة إلا بعد انتصارها من أجل التفاوض على تحقيق مطالبها بعد تحقيق المطلب الأول وهو إسقاط رأس النظام. مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي ضمن الثورة، وتعهد بتحقيق مطالبها المشروعة، وأقنع الرئيس المخلوع بالتخلي عن الحكم حفاظاً على أمن البلاد. وقد جرت العادة على انشقاق الأحزاب بسبب الزعامات الفردية، والصراعات الشخصية، وتسمية أجنحة الحزب بأسماء زعمائها. فالثورة ثورة الشباب، ثورة المحتجين، ثورة المتظاهرين، ثورة ميدان التحرير، ثورة الثوار، إنكاراً للذات وتخليّاً عن الفردية إلى الجماعية بإصرار ممن فجروها على شبكات الاتصال أولًا، وعادة الإعلام في التركيز على أحدهم بعد أن أطلق سراحه حتى يتحول إلى نجم إعلامي. وتزيد مقدمته شهرة إعلامية بأنها أول من قدمته وحاورته. وكانت الأهداف واضحة منذ البداية حتى النهاية "الشعب يريد إسقاط النظام". فالرئيس ليس فقط بشخصه بل بنموذجه ونظامه ودولته التي أسسها. ففي كل مؤسسة هناك رئيس مثله. يمثل القهر والفساد سواء كانت مؤسسة اقتصادية أو تعليمية أو مالية أو أمنية تشريعية أو تنفيذية. والتفَّت حول هذا الشعار كل التيارات السياسية والفكرية في البلاد، أصولية أو علمانية، قومية أو ناصرية أو ليبرالية أو ماركسية. وصلى المسلمون والأقباط في الميدان نفسه. وحرس المسلمون الكنائس. وحرس الأقباط المساجد حتى لا يسمحوا للنظام بالقيام بلعبة الطائفية، ويجهض الثورة، ويبرر لنفسه البقاء باسم الأمن والاستقرار. كان برنامج الثورة تلقائيّاً، تحرير المواطن من القهر، وتعذيب أقسام الشرطة وقانون الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم العسكرية وقراراتها التي لا تتحمل النقض أو الإبرام، وكفاية المواطن حاجاته الأساسية من خبز وسكن ودواء وتعليم أي تحريره من الفقر والذل والهوان. وهو يرى بناء القصور والمنتجعات السياحية والمدن الجديدة بالمطارات الخاصة وحمامات السباحة. تجاوزت الأيديولوجيات الليبرالية والاشتراكية، القومية والماركسية. فالواقع أبلغ من كل أيديولوجية استطاعت الثورة تحريك الملايين في مصر، من أدناها إلى أقصاها، من الساحل الشمالي إلى العريش، ومن الإسكندرية إلى أسوان، ومن الوادي إلى الواحات، وبؤرتها ميدان التحرير. وهو ما لم يحدث منذ 17-18 يناير 1977 الهبة الشعبية ضد غلاء الأسعار عندما استعد الرئيس للرحيل. ولم تستطع أجهزة الأمن بكل خططها الوقوف أمام الثورة بالعصي والخوذات، ثم بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع، ثم بالرصاص الحي، وغزوة الإبل والخيل، ثم بالانسحاب من الميدان وتكليف "البلطجية" وخريجي السجون وفلول الحزب الحاكم بالتصدي للثوار حتى يبدو النظام غير مستقر، وعمليات النهب والسلب ذريعة لتدخل الشرطة والأمن. وطالت المدة، وصمد الثوار في المواجهات الهامشية، يوماً وراء يوم، أسبوعاً وراء أسبوع حتى سقط رأس النظام بعد أسبوعين. وقد كانت الهبَّات تعرف في مصر بأنها لا تزيد عن يوم وليلة لغياب عصب ثوري للجسد الثوري. ويتجلى الإبداع الثوري في الطريق السلمي للثورة. فلم تصطدم برجال الشرطة وأجهزة الأمن بل هي التي اصطدمت بالجماهير الثائرة بالعنف بشتى أنواعه. في حين مارست الثورات السابقة الفرنسية العنف بالمقصلة، والبلشفية بالرصاص، والأميركية بالحرب. فالحق هدف، والسلم وسيلة. تكفي الملايين الهادرة وقدرتها على تجميع ملايين أخرى في شتى المدن المصرية. تحتل الميدان الرئيسي وسط القاهرة. ثم تحاصر مجلسي الشعب والشورى ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية ومبنى الإذاعة والتلفزيون، واتجاهها في اليوم الأخير إلى قصر العروبة ومنزل الرئيس. وتعاونت الثورة مع الجيش بعد أن نزل في الشوارع لاستتباب الأمن. وقابلته بالأحضان والقبلات كما فعلت الثورة في تونس. وهربت الشرطة قصداً أو عجزاً. فالشعب مع الجيش، والجيش مع الشعب. الجيش ابن الشعب، والشعب أبو الجيش. وتجلى الإبداع الثوري أيضاً في أسماء الأيام والأسابيع للثورة: جمعة الغضب، جمعة الرحيل، أسبوع التحدي، أسبوع الصمود. وتدل كلها على العزيمة والإصرار، ورفض الحلول المؤقتة التي تهدف إلى الالتفاف على الثورة حتى تحاصرها وتقضي عليها، انتقاماً منها. فقد تحول الزمن إلى ثورة، وعقارب الساعة إلى مراحلها. نفَسها طويل. وما زالت مستمرة حتى لا يُغدر بها وتصبح "الثورة المغدورة" كما هو معروف في أدبيات الثورات. تنتج مقومات استمرارها من ذاتها بالاعتصام والتعاون وضرورات الحاجات اليومية تطوعاً وتبرعاً بالطعام والدواء بالماء والعلاج في مستشفيات ميدانية بأجهزة طبية حديثة لعلاج المصابين وإنقاذ الشهداء. شعاراتها تجذب الانتباه "الشعب يريد إسقاط النظام". وتثير الخيال. والأشعار الشعبية تطلقها أفواه الشعراء الشعبيين. المسرحيات الوقتية عن الظلم والقهر والفقر يمثلها سكان العشوائيات. والأغاني التلقائية تطلقها الحناجر في مجتمع عرف الأناشيد الصوفية والموالد الدينية. فالفن من الشعب وله. واليافطات المرفوعة عليها شعارات خلاقة "ارحلْ يعني أمشي، هو أنت ما بتفهمشي". والرسوم وراء الكلمات والأقنعة والأردية والدمى كلها تمثل كارنفالاً للثورة بدلًا من الإعلام الرسمي الحكومي الذي ظل يُسبح بحمد النظام المتساقط. وتتجلى روح الشعب الخلاقة في النكات الشعبية، وروح الفكاهة التي لا تفارق المصريين في أحلك اللحظات. ووراء ذلك كله تصدح الأغاني الوطنية من سيد درويش تستعيد ثورة 1919 ومن الأغاني الوطنية في الستينيات لأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ عن الشعب والوطن التي كانت تغنى لثورة 1952. وكذلك أغاني أحمد فؤاد نجم "يا مصر قومي وشدي الحيل". وترفع صور عبدالناصر تطل على الملايين، فروح مصر الوطن تُبعث من جديد في جسد مصر الذي أوشك على التحلل. هذا هو الإبداع الثوري الذي سيظل ساريّاً في روح مصر حتى تعود إلى عزتها وكرامتها ومركزيتها في المنطقة.