انتظر الناس سيف الإسلام القذافي ذات ليلة بعد الإعلان المتكرر عن كلمة مرتقبة له خلال وقت قصير مع بداية الأحداث الدموية والتطورات والتحولات التي رافقتها في ليبيا. انتظره الناس متوقعين أنه سيقول كلاماً يعكس الصورة التي قدمت عنه خلال سنوات. أنه رجل حوار وتطوير ومعاصر لما يجري في العالم ومحاول إدخال ليبيا في "العصر الجديد". خرج سيف الإسلام، حاملاً كل السيوف إلا سيف الإسلام سيف التسامح والمحبة والعدل والرأفة واحترام الناس. خرج مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا استمر التظاهر ضد نظام والده . قال بوضوح: ذاهبون إلى حرب أهلية سيحرق فيها الأخضر واليابس والنفط. ستحرق كل الثروة، ستكون بلادنا فقيرة. لن تجدوا أيها الناس المأوى والمأكل. وسيكون المصير مجهولاً وستكون حرب القبائل مفتوحة وستقسّم ليبيا بعد بحر من الدماء "لأننا سنقاتل حتى آخر رجل"! وكأن الناس لم تفهم كلام الابن، حتى خرج بعد ساعات الأب، ملك الملوك، الرجل الاستثنائي في ليبيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، الذي أعزه الشعب الليبي، القائد دون صفة رسمية، فهو لا يستقيل لأنه ليس في منصب رسمي. هو قائد ثورة. والثورة مستمرة. إذاً القائد مستمر، هي ثورة أبدية. إذاً هو القائد الأبدي. قائد على مَن؟ قائد على "جرذان وعلى جراثيم" كما قال؟! قائد ماذا؟ قائد وطن إلى أين؟ إلى الهلاك والحرب القبلية؟ نعم لقد كان المشهد غير مألوف وغير مقبول. لم يرَ الرجل في كل ما جرى خطأ. أو حقاً للناس للتعبير عن رأيها. المسؤولون الذين استقالوا وهم من أقدم رفاق الدرب "خونة" "جبناء" تركوا المسيرة في وسط الطريق! والفقراء الذين هتفوا ضد الظلم والفقر والتسلط، وزاد صراخهم عندما بدأت تلوح في الأفق معلومات وأرقام عن مركز تجمع الثروات باسم الثورة وعن "البطر"، هؤلاء يستخدمون من الخارج! وعندما عبّروا عن قلقهم على وطنهم ورفض الطيارّون قصف آبار النفط، وتجمعات الأهل وتدمير المنشآت، صار هؤلاء في نظر النظام خونة وعملاء! كل شيء ممكن ومقبول وشرعي وقانوني من أجل بقاء السلطة والبقاء فيها إلى الأبد، أو ليكن الدمار شاملاً. هذا تفكير يحمل نوعاً من أسلحة الدمار الشامل النوعية التي نراها اليوم في ليبيا! وهذا نموذج خطير من نماذج القيادة السياسية على مستوى الدول. وفي النهاية الفقراء هم الذين يموتون، سواء أكانوا أبناء البلد أم المرتزقة الذين يؤتى بهم من دول مجاورة فقيرة رغم الخيرات والثروات التي تختزنها أرضها ومياهها في أفريقيا... ومع ذلك لن يكون الليل طويلاً. لن يدوم ظلم وقهر، هذه حتمية التاريخ تفرضها إرادة الشعوب. وما بدأ في تونس ومصر سيكمل طريقه في ليبيا. المؤلم أن الكلفة البشرية والمالية والسياسية والاقتصادية ستكون كبيرة على يد النظام الليبي و"أبنائه" و"سلالته" الاستثنائية في الحكم. والمفجع في هذا الجانب، مرة جديدة، هو ازدواجية المعايير. الغرب الذي كان ينظر إلى القذافي على أنه أحد أبرز رموز الإرهاب وحماة المنظمات الإرهابية والثورية في كل مكان. يسكت اليوم عن كل ما يجري على يد القذافي ضد شعبه، وهذا الغرب لا ينفك يتحدث عن الديمقراطية والحريات. لقد تأخر الأميركيون وغير الأميركيين في أوروبا في اتخاذ موقف مما يجري في ليبيا، باستثناء بريطانيا. كانوا يدعون إلى عدم استخدام القوة المفرطة. كانوا يتطلعون إلى الصفحة الجديدة التي فتحوها مع النظام الليبي، ولا يريدون خسارة رضاه لا سيما وأن استثمارات كبيرة تم تركيزها في عدد من المناطق الليبية من خلال النظام وممثليه، خصوصاً في مجال النفط. إنه النفط مجدداً. أميركا دمّرت العراق من أجل أسباب كثيرة. أبرزها النفط، اليوم لا تريد انهيار النظام في ليبيا، وتسكت عن ما يفعله لأنها وضعت يدها على النفط؟ أين الديمقراطية؟ أين الحرب على الفساد؟ أين الحرب على منتهكي حقوق الإنسان؟ أين الشفافية؟ أين معايير المراكز الأميركية للأبحاث، وقرارات لجان حقوق الإنسان، والمنظمات الأهلية لمكافحة الجريمة؟ أين الحديث عن التربية والتعليم والإنماء والعدالة وتوزيع الثروة العادل؟ أسئلة وأسئلة تطرح حول كثير من الأمور للدلالة على سياسة الغرب وعلى رأسه أميركا؛ أسئلة لا تطرح من زاوية الرغبة في استدراج تدخل غربي أو أميركي في ليبيا أو غيرها، بالتأكيد. بل أسئلة تطرح لتقارن مع ما يجري على الأرض وتؤكد مجدداً أن الهدف الدائم هو ضمان "مصالح سواء أكان ذلك عن طريق ديكتاتوريين أو "إرهابيين" أو مجرمين، أو مبيضّي أموال أو متحكّمـين، أو... هذه هي أميركا، هذا هو الغرب. ومع ذلك سيكون تغيير في عالمنا العربي وقد بدأ. تحركت المياه الراكدة. نراها اليوم تتقلب. سيطفو على السطح الكثير الكثير مما يعكّر المشهد أو يؤخر صفاءه. لكن في النهاية ولو طال الوقت، ستصفو المياه. سيكون استقرار على شيء ما لا يستطيع أحد إدعاء معرفته الآن. لكن الأمل يبقى في الاستفادة من التجارب واستخلاص الدروس والعبر ليأتي التغيير ملائماً لتضحيات وتطلعات الشعوب التي فرضت نفسها. نحن أمام فرصة حقيقية في المنطقة تستحق العناية والرعاية والحماية والمتابعة لتثبيتها. وحتى الغرب الذي أشرنا إليه أمام فرصة الإقلاع عن دعم الأنظمة الدكتاتورية المتسلطة لأننا وقفنا جميعاً أمام ظاهرة جديدة . ظاهرة تغيير دون دم، من قبل الناس، ظاهرة تغيير عبر الإنترنت، و"الفايسبوك"، كانت أقوى بكثير من ظواهر العسكر والتسلط والدبابات والمواقع التي دفع ثمنها من ثروات الشعوب، التي ازدادت فقراً واستعباداً! غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني