إذا أرادوا دقّ الثورات الجديدة في العالم العربي بالمسامير فستقف الثورات على قدميها وتواصل السير موشومة بالمسامير. هذه "كيمياء" الثورات ولغزها المحيّر، فهي لا تحدث لأن الناس معدمون مستضعفون، بل لأنهم أغنى ثقافياً وذهنياً وأخلاقياً من تسلط الأنظمة المحلية والأجنبية. ثورة الياسمين التونسية تفوح منذ سنوات بشذا نساء العلم في أكثر العلوم تطبيقية وعملية، كالمعلومات والاتصالات والطب، وفي أبعد العلوم عن الانشغالات "الدنيوية"، كالفلك، والفيزياء النظرية، وفلسفة العلوم. في الفيزياء "زهرة بن لاخضر"، وفي الطب الوراثي "حبيبه بوحامد شعبوني"، وفي كيمياء وفيزياء المعادن "مليكة طرابلسي عيادي"، وفي الكومبيوتر "هندة بن غزاله"، وفي البيولوجيا "أمل بن عمار القعيد". اجتمعت في بعضهن علوم عدة، وشارك كثير منهن في إدارة المعاهد والمخابر، ورسم السياسات العلمية للبلد. ومعظم نابغات العلم التونسيات غير مغتربات على خلاف مثيلاتهن في بلدان عربية عدة، ولم تقتنص مراكز ومعاهد العلوم الدولية التونسيات، بل هنّ اقتنصنها لخدمة تونس. وهذا أكثر ما أدهشني عندما أعددتُ عام 2005 دراسة عن "نساء العلم في البلدان العربية"بطلب من "البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة". زينب بن أحمد، أستاذة كلية العلوم بجامعة تونس، دكتوراه فيزياء من جامعة باريس، توّلت 10 سنوات الإدارة العامة للتحديث الجامعي في وزارة التعليم العالي، ولم تنقطع عن التدريس والبحث في علوم الهندسة البصرية والميكانيك والنسبية وفيزياء الكوانتوم. ومليكة عيادي، بكالوريوس وماجستير كيمياء، ودكتوراه فيزياء، أستاذة "الكلية العليا للتربية" بتونس، ومديرة نقل التكنولوجيا في "المركز التونسي الدولي للتقنيات البيئية"، أشرفت على 50 بحثاً للدكتوراه والماجستير. وهندة بن غزالة، دكتوراه في هندسة البرمجيات، ودبلوم عال في أنظمة الكومبيوتر، وفي الكيمياء الفيزيائية، أستاذة "المدرسة الوطنية لعلوم الكومبيوتر"، ومدير عام "مركز علوم الكومبيوتر" في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وعضو اللجنة الوطنية العليا للإنترنت. مواضيع بحوثها المنشورة بالفرنسية والإنجليزية عددها 70 بالغة الأهمية، كأمن الإنترنت، والهياكل الارتكازية لعمليات استعادة المعلومات. حبيبه شعبوني، أستاذة الطب "الجيني" بجامعة تونس تابعت وهي طالبة في قسم الأطفال بكلية الطب حالات الأمراض الوراثية في أسر يكثر فيها زواج الأقارب، وكرّست ممارستها الطبية وبحثها العلمي عشرين عاماً لتطوير هياكل ارتكازية للتشخيص والعلاج في تونس، وساهمت في إنشائها عام 1993. معنى الحياة بالنسبة لها، وجدارتها المهنية، يكمنان في "مساعدة المرضى وعوائلهم لمعرفة ما جرى لهم، وقبل كل شيء مساعدتهم في إنجاب ذرية معافاة". ذكرت ذلك في حفل منحها جائزة "اليونسكو -لوريال" للعام 2005. أمل القعيد، أستاذة، ومديرة قسم علوم البيولوجيا في "كلية العلوم" بـ"جامعة المنار"؛ من النخبة المساهمة في البرامج الدولية لرسم خرائط جينية للبشر والكائنات الحية. نشرت أكثر من 56 بحثاً في مجلات علمية مُحكمة، ورأست مشاريع عدة في معهد "باستور" بتونس، الذي يُعتبر من أهم معاهد البحث الإقليمية خارج فرنسا. وتشرف على "مختبر الجينات وأمراض المناعة البشرية" في كلية العلوم الذي أجرى بحوثاً جينية حول "سرطان الثدي لدى النساء الشابات في تونس والمغرب. واستقصى بحثها المنشور في "المجلة الأميركية للبيولوجيا البشرية" التناسل المعزول في جزيرة "جربا"، وقارن التكوين الجيني لمجتمعات البربر في تونس، وتابع أصولهم، ومواطنهم عبر التاريخ. وقاربت بحوث عالمة الفيزياء فوزية فريدة شرفي المنشورة بالفرنسية والإنجليزية فروعاً مختلفة في الفيزياء، والإلكترونيات، والبصريات، والمكونات الإلكترونية لأشباه الموصلات، والكهرومغناطيسية، وفلسفة العلوم، والعلاقة بين العلم والدين، ودعت في بحث منشور بالإنجليزية المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي إلى موقف متنور من ابن رشد وغيره من علماء وفلاسفة عصر النهضة العربية الإسلامية، وتجنّب مأزق الكنيسة مع غاليليو في القرن الـ17، والذي أدى إلى معارضة العلم بالدين بشكل ضرّ كليهما. زهرة بن لخضر، أستاذة الفيزياء في كلية العلوم بجامعة "المنار" في تونس، نالت جائزة "اليونسكو -لوريال" للعام 2005 عن أعمالها التي تتداخل فيها علوم الفيزياء والكيمياء والمناظر، وكذلك عن دورها الريادي في إنشاء أول مختبر إفريقي للتحليل الذري الطيفي والجزيئي يعمل فيه باحثون تونسيون وعرب وإفريقيون. ويُعتبرُ الطيف الذري "بَصمَة" كل ذرة، أو هويتها، ويستخدم تحليل "الطيف الذري" في مجالات البيئة والزراعة والطب وصناعات الأدوية والمواد الكيماوية، وبواسطته نعرف المواد التي تتكون منها الكواكب والنجوم الموجودة على مسافة آلاف الكيلومترات عن الأرض، ومكونات الخلايا الحية في أجسام المخلوقات الأرضية. درست زهرة الدكتوراه في جامعة "بيير وماري كوري" بباريس، وهي من أبرز الكفاءات العلمية العربية التي رفضت عروضاً مغرية للعمل في أوروبا، وعادت عام 1972 وزوجها المختص بالفيزياء أيضاً إلى تونس، وكانت البلاد تفتقر آنذاك إلى أبسط مستلزمات البحث العلمي، وانصرفت بسبب ذلك إلى البحث النظري، ونشرت أكثر من 60 دراسة في المجلات العلمية الدولية. وكمعظم نساء العلم في البلدان العربية لعبت الأسرة دوراً كبيراً في توجه التونسيات للعلم. أسرة حبيبه شعبوني كانت تعتبر حسن الأداء والنظام دليلاً على اللباقة، وكان والدها يكرر دائماً أن المعرفة والتعليم والدراسة الجامعية أهم ضمان للاستقلال والحرية. ووالد زهرة بن لخضر، وهو أحد مؤسسي "الاتحاد العام للشغل في تونس" كان يوصي أبناءه: "القوة مع العلم، ومع الناس الجيدين بالرياضيات". وكانت أمها بالنسبة لها أول معلم، وأول طالب. ففي المرحلة الدراسة الابتدائية كانت الأم تراجع معها الدروس، وتستمع لمحفوظاتها. وفي المرحلة الجامعية كانت الابنة تشرح تركيب النجوم والأشعة الطيفية لأمها التي تردد بحماس: يحيا العِلم! عبارة "يحيا العِلم" تقولها زهرة دائماً بالعربية في ختام محاضراتها العامة بالفرنسية أو الإنجليزية. وكشذا زهور الياسمين لا يحيى علم نساء تونس داخلهن، بل ينتشر في المجتمعات العلمية العربية والدولية. في عام 2004 تجاوزت تونس المملكة المغربية بعدد البحوث العلمية المُحكمة المنشورة، رغم الفارق الكبير بين السكان، وفي عام 2006 تجاوزت تونس السعودية، رغم الفارق الكبير في التمويل، وتقترب الآن حثيثاً من مصر التي تحتل المرتبة الأولى عربياً. تذكر ذلك الباحثة الأكاديمية القطرية موزة الربّان في بحثها "تونس... النجم العربي الصاعد". وتعتمد الربّان التي تفرغت من عملها في تدريس الفيزياء بجامعة قطر لإدارة "منظمة المجتمع العلمي العربي"، إحصاءات مركز "طومسن-رويترز"، ويظهر منها أن عدد البحوث المحكمة لعلماء تونس تضاعف أربع مرات خلال العقد الماضي من 500 عام 2000 إلى 2000 عام 2009. يحيا العلم!