أعلن جعفر محمد باقر الصدر استقالته من البرلمان العراقي، وربما كانت غريبة إلى حد ما، فالاستقالة عادة يقدمها أعضاء السُّلطة التَّنفيذية أو القضائية مثلاً فكيف يقدم عضو الهيئة التَّشريعية استقالته؟! ثم لمن يُقدمها؟! الشعب الذي انتخبه! وما هو مصير الأصوات التي حازها، وجعفر الصَّدر أحد الثلاثة الأكثر أصواتاً؟! ولو بحثت واقع الانتخابات التي جرت في مارس 2010 تجدها جرت بطريقة القائمة المغلقة، ذلك إذا علمنا أنه لم يصل إلى البرلمان بأصواته سوى فئة قليلة مِن الثلاثمائة والخمسة والعشرين برلمانياً. أما الأغلبية فمروا بالتعيين. لذا تستعظم استقالة مَن وصل إلى عتبة البرلمان بجدارة فائقة مثل الصدر. تعد استقالة الصَّدر شرارة قدحتها التَّظاهرات المطلبية العارمة، وحسب علمنا فإنه أول برلماني يُقدم استقالته خلال السَّنوات الماضية. فأيهم لا يحسب حساب ضخامة المعاش وكثرة المنافع، التي تحيط بالعضوية، بعدها التَّقاعد؟! المعاش الذي لا يحتاج إلى جهد ذاتي سوى التعاقد مع كتلة لديها المال السائب، الخارجي والدَّاخلي، ثم حضور جلسات البرلمان، حتى أن بعضهم وبعضهنَّ لم ينطقوا خلال الأربع سنوات، لا حقاً ولا باطلاً، تُرفع الأيدي مع الرَّافعين وتقبض مع القابضين. ولمحمد مهدي الجواهري (ت 1997)، في مثل هذه الحال، كلام بليغ، ضمن ما قاله في "المقصورة" (1947)، التي منها البيت المشهور: "سلامٌ على هضبات العِراق.. وشطيه والجرفِ والمُنحى". وصف بها أهل العمائم، والكوفيات والعُقل، والأفندية مِن البرلمانيين، تجدها بحثاً اجتماعياً في أخلاق المنتفعين مِن السَّياسة والثَّقافة، فمِن شعراء البرلمان الجديد، ممَن ركب موجة الطائفية، حبر قصائده لم يجف بعد في مدح الأقدمين حتى سالت لمدح المتأخرين. قال الجواهري ساخراً مِن برلمانيي ذلك الزَّمان: "وليتك تحسب أزياءَهم.. فتجمع منها زهور الرُّبى.. فتلك اللفائف (العمائم) كالأقحوان.. بها العِلم ينفخُ طيب الشَّذا.. وتلك الشَّراشيف كاليا.. سمينِ تاهَ العِقال بها وإزدهى.. تدلَّت عناقيدُ مثل الكروم.. على كتفي يابسٍ كالصُّوى.. يودُّ مِن التيه لو أنه.. يَشدُّ بها جرساً إن مشى.. لِيعلمَ سامعه أنه.. ينوب عن البلدِ المُبتلى.. إذا رفع اليد للحاكمينَ.. بدت نعمٌ وهي في زي لا.. تعوذه أمُّه إن مشى.. إلى البرلمانِ بأمِّ القُرى" (الدِّيوان). فممَن لا تتخطاه مقصورة الجواهري، وزير عليه أكثر مِن قضية معلقة، ولا يُعرف مصدر شهادتي الدُّكتوراه التي يفاخر بهما، يصر، ويصر برلمانيو كتلته، ليكون أحد نواب رئاسة الجمهورية، وعذره: أن ترشيحه لتسنم المنصب الرَّفيع واجب شرعي حرام عليه تركه! ومعلوم أن الواجب الشَّرعي تكليف ديني، شأنه شأن الإمامة، واختيار المجتهد مكتمل الشَّرائط، وهو عُرف سارٍ بين النُخب الدِّينية. أقول: هل غض المشرعون النَّظر إلى هذا الحد، وحصروا التَّكليف الشَّرعي بنيل الرَّئاسة! وهل نزل العِراق إلى هذا الدَّرك! برلماني آخر مشهور بزئبق الكلام، رقراق يصعب الإمساك بمعناه، أقرب إلى اللغو مِنه إلى الكلام، ارتقى في جلسة البرلمان (السبت الماضي) المنصة، يطرق رأسه ويرفعه إشارة إلى العلو والتَّأمل، وبدأ بآية تمجيد الشُّهداء، ثم هاجم البحرين، وناصر ثورات الشُّعوب، ومثله لا يوصف إلا بالآية: "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَه". لقد نسي أن راتبه التَّقاعدي يبلغ ثلاثة وثمانين مليون دينار عراقي، أي حوالي سبعين ألف دولار شهرياً، ناهيك عن القصر بالخضراء، وبقية المنافع. لم أتحدث عن رواتب الآخرين، فهم لم يتباهوا بالنَّزاهة والتَّضحية كصاحبنا. مَن يقترب مِن جعفر الصَّدر، لا يستغرب مِن تقديم استقالته، فهي منتظرة في أية لحظة، لأن الاستمرار بالنِّسبة له حنث في اليمين الذي أدخله البرلمان: "أقسم بالله العلي العظيم أن أؤدي مهامي ومسؤولياتي القانونية بتفان وإخلاص، وأحافظ على استقلال العراق وسيادته، وأرعى مصالح شعبه، وأسهر على سلامة أرضه وسمائه ومياهه وثرواته ونظامه الديمقراطي الاتحادي، وأعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة، واستقلال القضاء، وألتزم بتطبيق التَّشريعات بأمانة وحياد. والله على ما أقول شهيد" (قانون البرلمان العِراقي). فأية مصالح رعاها البرلمانيون العِراقيون، وجلهم مِن الصائمين والمصلين، أكثر مِن رعاية لائحة معاشاتهم، وتقاسم الغنائم بين الكُتل؟! أرجو ألا يلتبس العنوان، ويفسر بشذوذ جعفر عن أخلاق والده، وله الحق بالاختلاف عنه، والاعتراض على ما يعتقد، فزمن الأب (أعدم 1980) غير زمن الابن، وليس المطلوب منه أن يظل مرتهناً إلى رؤى سلفه في السِّياسة والفكر، أو إلى شعار رفعه، في يوم مِن الأيام وتراجع عنه، لكن تبقى الخصال الشَّخصية مِن حق الوالد على الولد في الالتزام بها لفضيلتها. فمثلما اقتنع الفرع بعصامية وعفة أصله، وإن حرمانه مِن لعبة طال بكاؤه عليها، وهي في متناول أترابه مِن أطفال المحلة، ظلت درساً له، وظهرت في هذا اليوم بالاستغناء عن أربعة وثلاثين مليون دينار عراقي، بما يُقابل الثَّلاثين ألف دولار شهرياً، مِن غير المنافع. فالأب لم يمد يده إلى الحقوق الشَّرعية (الخمس)، مثلما تأهل الآخرون بها كل التَّأهيل، مِن قصور وأملاك باسم الدِّين والمذهب. أخبرني المجتهد اللبناني السَّيد علي الأمين، وكان يزور الصَّدر أكثر مِن مرة في الأسبوع، قال: وجدته يفترش الحصير ويشرب مِن الكوز! ويصعب هنا فوات قول الجواهري، أيضاً، في المعري (ت 449هـ)، وكان كذلك: "على حصير.. وكوُز الماء يَرفده.. وذِهنه.. ورفوف تحمل الكتبا" (المعري 1944). التقيت مع جعفر في الشَّهر الماضي ببيروت، وسألته، وهو العضو في اللجنة القانونية، كيف ترى الحال! قال: لا يبشر بخير، الكلُّ مشغول بمواله، والنَّاس لا أحد يحسن حسابهم. قلت له: استبشرنا خيراً أن تكون، وأنت بهذه الرؤيا النَّيرة، والسُّلوك المعتدل، مع نزاهة ونفحة الشَّباب! لكن الإحباط لا يسمح له بأكثر مِن التمني. لم أُسعد باستقالة جعفر الصَّدر نكاية أو تعجيزاً لمدراء العِراق، فكنت أحسبه واحداً مِن آخرين يُشد بهم الأَزر، لكن للنُّفوس حدوداً في تقبل الباطل، وها هو يرى والده قد غدا لافتةً وشعاراً عاش عليه حزب استهلكته السُّلطة خلال بضع سنوات، فلم يكن أمامه إلا قطع الطريق، فكانت الغاية امتلاك أبيه به، بينما يرى الوفاء لِما وعد ناخبيه، فلما تصادمت الغايات والمقاصد عاد إلى أبيه، نظيف الجيب والضَّمير!