الثورات السياسية مثل كل الأحداث الجِسام، تفرض على كل منا وقفة للملاحظة والتأمل في ما يجري. وهنا عادة ما يمتزج الموضوعي بالذاتي، والعام بالخاص. كان هذا هو الموقف الذي جعلني أذهب بشكل متكرر إلى ميدان التحرير خلال أيام الاعتصام، والنقاش مع كثير من طلابي وطالباتي المرابطين هناك في خيامهم. وبعض هؤلاء الطالبات كن صديقات لابنتي "فانيسا" التي توفيت في حادث سيارة أليم منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبالطبع رجعت مع هؤلاء الشباب والشابات إلى مناقشاتنا السابقة مع "فانيسا"، سواء في تعليقاتنا على أحوال المجتمع العربي عامة، وخاصة الحال الذي وصل إليه التعليم، مثل افتقاره إلى الحس النقدي والتزامه بالحفظ والتلقين، وكذلك فجوة الأجيال في الأسرة العربية، وهي الظاهرة التي يعانيها كثير من هؤلاء الشباب، أو صورة العرب في العالم الخارجي. حتى بعد أكثر من ثلاث سنوات على فجيعتي وفجيعتهم بفقدان "فانيسا"، شعرنا كلنا أننا نواجه نفس الأمثلة الأساسية حول تطور المجتمع العربي ومتطلبات أجياله الجديدة، لكننا تقدمنا خطوة كبيرة نحو الاستجابة لطموحات الجماهير بعد الثورة الشعبية في كل من تونس ومصر. وخلال مناقشات ميدان التحرير مع هؤلاء الشباب والشابات، حيث كنت أتخيل دوماً "فانيسا" بينهم، رجعت إلى أول مقال كتبته في صحيفة "الاتحاد"، وفي صفحة وجهات نظر تحديداً، بعد الحادث الأليم، وكان بتاريخ 11 يناير 2008، أما النابع من حالة الألم آنذاك، فكان: "ما تعلمته من ابنتي"، أي ما يتعلمه الكبار من الشباب، وركزت تناولي على هذه العلاقة بين الأجيال المختلفة، وتطرقت إلى ثلاث نقاط رئيسية: 1- الإعجاب بهذا الشباب الذي ترك بمحض اختياره، الحياة الرغدة السهلة لكي ينخرط في نوع من الجهاد العسير في سبيل الارتقاء بحياة مجتمعهم والدفاع عن رسالة محددة، ألا وهي تغيير المجتمع من أجل الإسراع بعجلة التنمية بدلاً من القراءة أو الكتابة النظرية عن كل ذلك. وكما هو شأن "فانيسا"، فقد كان شباب ميدان التحرير (ذكوراً وإناثا)، سواء أكانوا من أصدقائها القريبين أم لا، يكرسون تعليمهم المتميز في سبيل رسالة أو قضية سياسية أو اجتماعية، سواء أكانت العدالة الاجتماعية أو الحرية السياسية أو التغيير بمعناه الواسع. وكما قلت بالنص في مقالتي المذكورة آنفاً، وذلك قبل ما يزيد على ثلاث سنوات من الآن، فإن هؤلاء الشباب كانوا "متجاوبين مع العولمة وخصائصها، وبالذات القدرة على الترابط والتعبئة والتنظيم، ليس فقط في داخل مجتمعهم، وإنما أيضاً على مستوى العالم تقريباً". وقد حاول النظام المصري في شهر يناير الماضي، ومع بداية الثورة، إعاقة هذا الجانب التعبوي لنشاط الشباب وذلك بقطع خدمة الهاتف المحمول ورسائله، وكذلك الإنترنت، لكنها محاولات لم تنجح أمام إصرار هؤلاء الشباب وتوجههم الإبداعي المميز. 2- كان الاستخلاص العام الثاني الذي تعلمته، كما قلت بالنص منذ ثلاثة أعوام، هو "طريقة الشباب في التفكير والإنجاز، وخاصة في اعتمادهم على التكنولوجيا واستغلالهم كل الأدوات الحديثة في التعبئة والاتصال، هم أطفال ثورة المعلومات، لكنهم أيضاً بناة هذه الصناعة: إدارة وبرمجة وتصميماً وتشغيلاً". واستمررت على هذا النحو في ذلك المقال كي أوضح أخيراً أن الإحصائيات المبدئية تقول بأن "هُناك حوالي 155 ألف مدونة عربية يبحث أصحابها عن المعلومة أو يبتكرونها وينشرونها، وبالتالي يصبحون أساس القوة المعرفية، التي هي بدورها أساس السلطة والتسلط في عالم العولمة الذي يسيطر على حياتنا هذه الأيام". 3- وبسبب انتشار هذه المدونات الإلكترونية، وإسهامها المتزايد في توجيه جزء أساسي ونشط من المجتمع، وبالتالي تشكيل نمط التنمية، أصبح من الضروري أن تكون التنمية هي تنمية البشر وليست بناء الحجر. وأقصد بذلك ضرورة "أن تكون التنمية من أسفل، أي من خلال تمكين المجتمع المدني بكل جماعاته وأطيافه، وليس عن طريق قرارات فوقية عادة ما تظل متباطئة في التعامل مع الظروف المتطورة التي تفرضها العولمة، سواء أكانت هذه الظروف في سوق العمل أم فيما يتعلق بتشجيع السلوك العلمي والإبداعي". وفي الواقع كان معظم الشابات والشباب الذين رأيتهم في ميدان التحرير شغوفين بالاكتشاف والابتكار، بدل إتباع الأسلوب الروتيني والتقليدي في محاكات الآخرين ونقل ما لديهم. وقد اختتمت مقالتي المذكورة آنفاً ببعض الاستخلاصات المهمة كما استنتجتها من الحادث الأليم، وذلك بالتأكيد على أهمية العنصر الشبابي في المجتمع العربي، حيث تشكل الفئة العمرية ممن هم أقل من 30 عاماً ما يقرب من ثلثي المجتمع. وأنهيت المثال بإثارة انتباه القارئ إلى أن "هذا الحجم الكمي والنوعي الهائل قد يكون قوة دفع لهذا المجتمع، إذا ما أحسنا إدارته، كما أنه قد يزيد من مشاكلنا فيما لو تم إهماله". ثم أشرت إلى أن "علاقتي بفانيسا وزملائها تبين أن الحل في أيدينا، فلنحول فجوة الأجيال إلى حوار بين الأجيال وتكاملها". فهل جاءت ثورة الشباب لتنجز ما تمناه الكثيرون، أي العبور بمجتمعاتنا من فجوة الأجيال؟