هي المرة الأولى بكل تأكيد منذ بدأ انعقاد القمم العربية في أنشاص 1946 التي يثور فيها الحديث عن تأجيل موعد انعقاد قمة عربية بسبب الظروف الداخلية في البلدان العربية، وهو اعتراف ضمني بأن الاضطرابات التي تحدث في عديد من هذه البلدان الآن لابد وأن تؤثر على فاعلية النظام العربي كحقيقة كلية. كان تأجيل القمم العربية يحدث في السابق لخلاف في النهج بين الدول العربية في معالجة كبريات المسائل المعروضة على القمة على النحو الذي يخشى معه انفجارها من الداخل، أو إخفاقها في معالجة تلك المسائل، أو على الأقل إصدارها قرارات عاجزة بشأنها لا تقدم ولا تؤخر، وفي هذا السياق كان شعار "ضرورة الإعداد الجيد" للقمة يرفع تبريراً للتأجيل الذي كان يطول أمده في أحيان كثيرة، وعندما أصبح انعقاد القمم دوريّاً في مارس من كل عام بموجب البروتوكول الذي ألحق بالميثاق في قمة القاهرة 2000 بحيث صار جزءاً لا يتجزأ منه، أضحى الخلاف في النهج بين الدول العربية تجاه المسائل المعروضة أو الخلاف مع الدولة المستضيفة للقمة ينعكس على اختيار بعض هذه الدول أن يكون تمثيلها في القمة متدنيّاً وصولاً إلى حد التمثيل بسفير بدلاً من رأس الدولة ذاتها. بدأ الحديث عن تأجيل قمة بغداد المقرر انعقادها في مارس2011 بما يشبه القرار من العقيد القذافي باعتباره رئيساً للقمة السابقة التي انعقدت في سرت في مارس 2010، وذلك بعد أن امتدت المظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير إلى بلدان عربية عديدة بما فيها ليبيا. ومن الناحية القانونية ليس من حق رئيس القمة أن يتخذ قراراً بهذا المعنى، لأنه يخالف بذلك الميثاق الذي أصبح بروتوكول القمة العربية جزءاً لا يتجزأ منه منذ عام 2000 كما سبقت الإشارة، ولكن قرار القذافي بني على ظروف يراها مستوجبة للتأجيل، وليست هناك سابقة واحدة لهذا الموقف منذ أصبحت القمم دورية إلا عندما أعلنت تونس في اللحظة الأخيرة تأجيل قمة مارس 2004 التي كان مقرراً انعقادها على الأراضي التونسية في ذلك التوقيت إلى أجل غير مسمى، وفي تلك الحالة الوحيدة سارعت مصر إلى إعلان استعدادها لعقد القمة بمقر جامعة الدول العربية في الموعد المقرر، وعند هذا الحد تراجعت تونس وحددت مايو 2004 تاريخاً لانعقاد القمة، وحدث توافق عربي في هذا الخصوص، وهو ما يعني ضرورة موافقة الدول العربية على أي تأجيل للقمة، وخاصة أن الدوائر المسؤولة في بغداد -التي كانت قد أصرت على انعقاد القمة في العاصمة العراقية كدليل على عودة الأمور إلى طبيعتها في العراق- أعلنت تمسكها بانعقاد القمة في موعدها. ولكن عدم وجود سلطة قانونية للقذافي تخول له اتخاذ قرار بتأجيل القمة لا ينبغي أن يصرف نظرنا عن المشكلة الراهنة في الوطن العربي، فثمة إرهاصات تغيير واضحة في عديد من البلدان العربية. وقد نضجت هذه الإرهاصات إلى حد الإطاحة بنظامي الحكم في كل من تونس ومصر في يناير وفبراير 2011 على التوالي، وإن كنا غير متأكدين حتى الآن من سمات الوضع الجديد في البلدين، وما زالت تتفاعل بقوة حتى الآن في بلدان أخرى كليبيا واليمن والجزائر والأردن. بل إن وتيرة الاحتجاجات على أوضاع داخلية قد تصاعدت في العراق الذي يعاني أصلاً مما نعرفه من مشكلات عويصة، ناهيك عن الأوضاع المعقدة منذ ما قبل تصاعد الاحتجاجات الشعبية العربية في كل من لبنان والسودان، وقد لا يعرف البعض أو حتى كثيرون -ربما بسبب البعد الجغرافي أو هامشية الدور في التفاعلات العربية- أن بلداً عضواً في جامعة الدول العربية هو جيبوتي قد امتدت إليه الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتغيير، كما أن الطريقة التي تفجرت بها هذه الاحتجاجات في أرجاء الوطن العربي لا تجعل المرء قادراً على أن يجزم بأن بلداً عربيّاً بعينه يمكن أن يكون بمنأى عنها في المستقبل القريب. وقد يزيد الأمور تعقيداً ما أصبح مؤكداً من أن عمرو موسى الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية لن يسعى للتجديد له في هذا المنصب، بل إنه قد يستقيل منه قبل انعقاد قمة 2011 لعزمه الترشح في الانتخابات الرئاسية المصرية القادمة، وهذا يعني أن الإعداد للقمة سوف يشوبه الاضطراب بدوره. وتطرح الأوضاع السابقة بالتأكيد على القمة العربية متى عقدت موقفاً جديداً، فليس من المتصور مثلاً أن يكون جوهر عملها هو المفاوضات العبثية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، أو البحث في الموقف المناسب من استخدام الإدارة الأميركية الحالية حق الاعتراض للمرة الأولى ضد مشروع قرار فلسطيني يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وهكذا.. مع تجاهل ما يجري في أقطار عربية عديدة من أحداث جسام. وهو ما يقودنا إلى نتيجة مؤداها أن "الإصلاح" في الوطن العربي -إن كان ما زال يجدي- ينبغي أن يحتل مكان القلب في القمة العربية القادمة أيّاً كان موعد انعقادها، حتى يعود للجسم العربي استقراره وتماسكه على أسس جديدة تكفل له قدرة حقيقية على أن يكون فاعلاً وقادراً على التصدي لما يواجهه من تحديات وتهديدات خطيرة. ومن المعروف أن مفهوم الإصلاح في النظام العربي كان ينظر إليه في السابق من خلال نهج يُعنى بإصلاح النظام العربي كحقيقة كلية: نظام التصويت في أجهزة الجامعة العربية -إنشاء برلمان عربي -إنشاء مجلس عربي للسلم والأمن... وهكذا، غير أننا لم نرَ بسبب تهافت الأوضاع في عديد من البلدان العربية أي ثمرة حقيقية لهذه المحاولات الكلية للإصلاح، فلا نظام التصويت الجديد أثمر مزيداً من الفاعلية بسبب ضعف التزام الدول العربية بمقررات الجامعة أصلاً، ولا البرلمان العربي سواء في صيغته الانتقالية أو الدائمة أضاف الذراع الشعبية المطلوبة للعمل العربي المشترك كونه -أي البرلمان العربي- مؤلفاً من ممثلين لبرلمانات ضعيفة أصلاً، وتابعة في معظمها للسلطة التنفيذية في دولها، ولا مجلس السلم والأمن العربي نجح في تطويق أزمة عربية أو صد خطر خارجي أو حل صراع عربي- عربي لتفرق الدول العربية واختلاف مناهجها في هذا الصدد... وهكذا. ولكل ما سبق أعتقد أنه قد آن الأوان لتشغل القمة العربية نفسها -للمرة الأولى منذ بدأ انعقادها- بالإصلاح داخل البلدان العربية، وخاصة أن غياب هذا الإصلاح قد أدى إلى ما تمر به أقطار عديدة في الوطن العربي اليوم من تقلصات عنيفة لاشك أنها تؤثر على فاعلية النظام العربي في أدائه كحقيقة كلية مع العلم أنه كان يعاني أصلاً من عجز ظاهر قبل تفجر الأوضاع الحالية. ولا توجد من حيث المبدأ صعوبة في الاستجابة بشكل أو بآخر للمطالب التي ترفعها الآن الحركات الاحتجاجية في عديد من البلدان العربية، إذ تركز هذه المطالب على المشاركة الشعبية وتحقيق العدل الاجتماعي بصفة خاصة، بل قد يكون الأكثر فعالية أن يتم استباق هذه المطالب أصلاً من قبل النظم العربية الحاكمة بما في ذلك النظم التي لا تواجه هذه التحديات حتى الآن، وما لم تتبلور رؤية لدى هذه النظم لإصلاح حقيقي فإن الاضطراب الراهن في الوطن العربي مرشح للتفاقم بما يفتح الباب لسيناريوهات للمستقبل تتداخل فيها إرهاصات التغيير مع عناصر الفوضى.