لن تنسى الشعوب العربية ولا الرأي العام الدولي الذي كان يراقب ميدان التحرير لحظة بلحظة يوم البطشة الكبرى، عندما أطلق النظام المخلوع "بلطجية" ومرتزقة على الجمال والبغال وبالسيوف والبلطات ضد المتظاهرين العزل وقتلوا منهم من قتل. في مصر كما في تونس كما في غيرهما يخرج مئات الألوف من الناس وشعارهم "سلمية.. سلمية" في مظهر احتجاج. وعندما تخرج مئات الألوف إلى الشوارع في أي مكان في العالم، سواء النامي أو المتقدم وقد شهدنا ذلك مرات لا تحصى في أوروبا، فإن التدمير والتخريب سرعان ما يتسيَّدان المشهد، بما يقود إلى خسارة القضية المركزية أمام الرأي العام الأوسع. وعندها تتدخل الشرطة لإيقاف التخريب وتطبيق القانون ويتشتت الدعم والإجماع العام حول أهداف المحتجين. وفي "عصر الثورات العربية" نرى مشهداً مثيراً قوامه التحضر الذي يقدمه المحتجون مقابل التردي الكبير الذي تقدمه بعض الأنظمة العربية وأجهزتها القمعية. والغريب في الأمر أن "تكتيكات" بعض الأنظمة العربية القامعة وردات فعلها على الاحتجاجات والثورات لا تني تقدم نسخاً عن بعضها بعضاً، وقلة من المسؤولين هم من يتعلمون الدرس من نظرائهم الذين أطيح بهم. والرد الأول، إعلاميّاً وسياسيّاً، يتمثل في الاستخفاف بمطالب وطموحات الثائرين بكونهم مجموعة من الطائشين أو المغرر بهم، أو عناصر من الحاقدين والمتآمرين، وفي كل الأحوال فإنهم يتحركون وفق "أجندات أجنبية" بما ينزع عنهم صفة الوطنية ويمهد الطريق لقمعهم بلا هوادة. والقمع بلا هوادة هو الرد الأول، أمنيّاً، وهنا لا نرى مع الأسف "فنون" تفريق المظاهرات بالطرق السلمية التي تتدرب عليها أجهزة الأمن في العالم، بل نرى فنون القمع وإطلاق الرصاص الحي والمطاطي. وبعد فشل الرد الأمني الأول يأتي الرد الثاني المتمثل في الاختفاء الفجائي للشرطة ومؤسسات الأمن بهدف ترك البلاد فريسة للصوص والمجرمين الذين سيستغلون الفوضى الناشبة وغياب الشرطة. ويكون الهدف من وراء هذه السياسة غير المسؤولة دفع البلاد إلى حافة الانهيار الأمني بحيث يخشى الناس والأفراد والعائلات على أمنهم الخاص وحياتهم وممتلكاتهم فيرفعون الصوت عاليّاً ضد المنتفضين طالبين عودة الأمن والأمور إلى مجاريها. وعندما يفشل هذا الرد أيضاً، كما حصل في تونس ومصر، يتم اللجوء إلى الرد الأمني الثالث وهو تحويل الشرطة والأجهزة الأمنية إلى عناصر تخريب وقتل و"بلطجة" لترويع المنتفضين والناس بعمومهم ودفعهم دفعاً نحو المطالبة بإنهاء الثورة وعودة الأمن وأجهزته. وخلال ممارسة هذه التكتيكات القاتلة رأينا كيف أن المنتفضين أنفسهم والناس العاديين أظهروا حسّاً بالمسؤولية وتسلموا على الفور مسؤولية الأمن العام في مدنهم وشوارعهم. وشكلوا لجاناً شعبية تحمي الممتلكات والبيوت من "بلطجة" بعض الحكومات نفسها وأجهزة قمعها. وتحولت هذه الحكومات إلى وحوش كاسرة غاضبة تستنزفها جراح الهزيمة ولكن لا تمنعها من توجيه ضربات أخيرة دموية وقاتلة. وعندما لا تحقق هذا التكتيكات أهدافها وتفشل الأجهزة الأمنية عندما تتحول إلى عصابات قمع وسرقة بسبب عمق الوعي والإدراك والتضامن عند المنتفضين والرأي العام، يتم اللجوء إلى الجيش للتدخل والقمع. وهنا رأينا حتى الآن إحساساً عاليّاً بالمسؤولية والترفع عن قمع الناس في حالتي تونس ومصر كما شهد الجميع. فقد رفض الجيش أوامر "عليا" صدرت إليه بتوجيه مدافعه نحو صدور الثائرين العزل الذين استمروا على تمسكهم باستراتيجية "سلمية.. سلمية" كاشفين عن الوجه القبيح للأنظمة القمعية الباطشة، مقابل الوجه المتمدن والراقي للمتظاهرين. ولكن موقف الجيش في حالات أخرى ما زال غامضاً ولا نعرف حتى هذه اللحظة إلى أين تسير الأمور وكيف ستكون ردة فعل الجيش في البلدان العربية الأخرى التي تشهد انتفاضات وثورات. ويقود ما سبق إلى رسم المفارقة الكبرى التي ظلت تنبني مداميكها خلال العقود الماضية وكشفتها هذه الثورات ونتائجها وخاصة أسرار النهب الضخم الذي كان يمثل العمود الفقري لبعض النخب الحاكمة. تقول هذه المفارقة إن الهم الأساسي لبعض الأنظمة الحاكمة ونخبها كان يتمثل في توفير الشروط والظروف التي تتيح وتحمي استمرار النهب والفساد وتحويل المليارات إلى الخارج وإلى حسابات شخصية. ويصبح الوطن والشعب كله وكأنه بقرة حلوب هدفها إدرار الملايين على حساب الملايين من الفقراء والمعدمين والمحرومين وعلى مدار عقود طويلة. ولضمان بقاء ملايين الفقراء والمعوزين تحت السيطرة وتفادي ثورتهم تتم تقوية أجهزة الأمن وتحويلها إلى جيوش من الشرطة التي تسهر ليل نهار على ضمان بقاء هؤلاء تحت قبضة الحذاء الأمني، وبقاء بوابات النهب والسرقة مفتوحة وقائمة للنخب الحاكمة. وعلى مدار سنين طويلة أضاعت تلك النخب الفاسدة مئات المليارات التي كان بإمكانها نقل الأوطان إلى مراتب أفضل وأعلى في مستويات التنمية والعدالة الاجتماعية والتقدم العلمي. كما أضاعت فرصاً لا تحصى لإدراج بلدانها في خضم التطورات العالمية الكبرى التي تقع وتوفر مجالات للاستثمار في طاقات الشعوب وخاصة الشبابية منها. وتبين لنا أن تحقيق التنمية وتوفير مساحات لتقدم الطاقات الشبابية الخلاقة والمندفعة والمبدعة كان آخر هموم تلك الأنظمة الحاكمة ونخبها الفاسدة. ولعل التحضر والتمدن الذي قدمه شباب العرب في ثوراتهم وانتفاضاتهم وحس المسؤولية العالي الذي قدموه هو التعويض الكبير الذي لا يقدر بثمن عن الخسارات الهائلة التي سببتها للأوطان بعض الأنظمة الباطشة. ورأس المال الحقيقي للشعوب العربية وبلدانها التواقة إلى التقدم والانطلاق يكمن في ملايين الشباب الذين يحلمون بأوطان حرة وديمقراطية أساسها المتين هو العدالة الاجتماعية والمساواة على قاعدة المواطنة والفرص المتكافئة. وما تزال هناك بقية فرصة في بعض البلدان الأخرى كي تهب النخب الحاكمة فيها على الفور نحو إجراء إصلاحات حقيقية وجذرية، ليست تجميلية ولا شكلية، تهدف إلى إعادة بناء السياسة الداخلية لتقوم على مبدأ المشاركة والشفافية وإدماج الشباب بالعمل والقرار، وليس بمحاولة إسكاتهم بأي من التكتيكات التي فشلت وسوف تفشل ما لم يحدث التغيير في العمق، وفي العمق حقاً.