لا نجد أدنى صعوبة في ملاحظة أن الاتجاه الرئيسي في الكتابات العربية والغربية حالياً، التي عنيت برصد حالات التحول الديمقراطي على الصعيد العربي، تجمع على أن الدول العربية ظلت تمثل "حالة استثنائية" بالنسبة للظاهرة التي اتخذت طابعًا "عولميًا" منذ ثلاثة عقود، حتى بدت هذه المنطقة من العالم وكأنها مستعصية على الإصلاح من داخلها، رغم تزايد وتيرة المطالبة بالإصلاحات السياسية، خاصة مع تزايد الإحباطات الاقتصادية واستشراء الفساد في أغلب الدول العربية. وتلح مطالب التغيير على الدستور كركن رئيسي في عملية الإصلاح السياسي. ونسوق التجربة المصرية في تعديل الدستور كمثال على التراجع الذي حدث في هذا الجانب. فرغم أن مبارك اشتهر بحبه للاستقرار، إلا أن عدد التعديلات التي أدخلها على الدستور المصري يفوق بمراحل أي عدد من التعديلات التي أدخلت على أي وثيقة دستورية في مصر منذ بدأت مصر تطورها الدستوري في سنة 1866. وذلك أيضاً رغم تصاعد الدعوات لتعديل العديد من مواد دستور 1971، لأنه جرت صياغته في ظل أوضاع وطنية وعالمية لحقتها تغيرات جوهرية، منها مثلا انتقال مصر ذاتها إلى التعددية الحزبية بدلا من نظام الحزب الواحد، وتحولها تدريجيا نحو الاقتصاد الرأسمالي بدلا من اقتصاد التخطيط المركزي. الأمر المهم هنا ليس عدد التعديلات، ولكن مضمونها وأسلوب إقرارها بالأساس. وواقع الأمر أن طلب إعادة النظر في المظاهر الهيكلية للدستور المصري كان وما يزال محقا، إذ لم يكن أحد يجادل في أن هناك مشكلة بنائية تواجه النظام السياسي المصري تتعلق بأسسه وقواعد حركته. فكل نظام سياسي يمتلك منطقا داخليا يحدد قواعد التعامل بين مؤسساته، وأساس العلاقات بين النخب الحاكمة والنخب الأخرى، وكذلك قواعد انتقال السلطة. لكن المشكلة في مصر كانت هي عدم التناسق بين الأطر القانونية والممارسات الفعلية، وبين المؤسسات الدستورية والحزبية والقوى الاجتماعية الفاعلة. وقد عبرت تلك المشكلة عن ذاتها في القوانين التي كانت تصدر لمواجهة مواقف بذاتها، وعرفت مصر وفق هذا المنطق قانون العيب وقانون الوثائق وقانون الأحزاب السياسية. فهل حلت التعديلات الدستورية التي جرت على الدستور المصري المشكلة البنائية التي واجهت النظام السياسي المصري فيما يتعلق بأسسه وقواعد حركته؟ نجد أن تلك التعديلات انصبت في أغلبها على المواد المتعلقة بالمقومات الأساسية للمجتمع، خصوصا ما يتعلق منها بالطبيعة الاشتراكية للاقتصاد، وكذلك المواد المتعلقة بنظام الحكم. فقد جرى تفصيل شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في المادة 76 على نحو لا يسمح لمن لا يرضى عنه "الحزب الوطني" الحاكم بالترشح، ولا أن يحكم مصر غير من يرشحه الحزب. و المشكلة هنا تكمن في أن الانتخاب لن يكون انتخاباً، خصوصاً في ظل عدم التكافؤ البنيوي للأحزاب والمرشحين في انتخابات برلمانية أنتجت دائماً غالبيات مؤيدة للنظام. بمعنى أنه لن يجري اختيار مرشح للرئاسة إلا إذا كان لحزبه 5 في المئة على الأقل من نواب البرلمان، وهم نواب كان الحزب قد اختارهم وأمن لهم الفوز بعضوية المجلس. وانطلاقاً من أن الديمقراطية لم تنشأ أبداً، ولا يمكن أن تنشأ بمرسوم من فوق، فقد اتضح منذ وقت أنه يتعين على الأقل وجود ائتلاف قوي من أجل التغيير، وهذا ما أدى إلى ظهور حركة "كفاية" وما أعقبها من حركات شبابية تضافرت جهودها أخيراً واستطاعت إسقاط النظام. ويمكن إدراك محدودية تأثير الزعماء الشباب الجدد في المغرب والأردن وسوريا، حيث تولى السلطة الأبناء الذين قاموا بـ"تحديث" الأنظمة القائمة التي ورثوها، لكن تأثيرهم كان من نواح كثيرة مقصوراً على تباينات في نمط الأداء فحسب مقارنة بالماضي. وعلاوة على المادة 76 في الدستور المصري، فقد تم تعديل المادة 88 لإسقاط مبدأ الإشراف المباشر للقضاء على الانتخابات حتى لا تشوبها شبهة التعبير الأمين عن إرادة شعبية يحميها القضاء. كما لم يتم المساس بالمادة 79 التي تجعل ولايات رئيس الجمهورية مفتوحة. أحزاب المعارضة الرئيسية، وكذلك منظمات المجتمع المدني والحركات السياسية ذات المصداقية، كلها اعترضت بشدة على تلك التعديلات، كما انتقدها خبراء القانون الدستوري. وهكذا أصبح دستور البلاد، والذي يفترض أن يكون موضع إجماع، وثيقة تفتقد الإجماع الوطني حولها. فبدون انتخابات حرة ونزيهة، وبدون رقابة حقيقية وفعالة على السلطة التنفيذية من جانب برلمان تتمتع فيه المعارضة بوجود فعال، لن يكون هناك تداول للسلطة ولا احترام حقيقي لحقوق الإنسان، ولن تكون هناك فرصة لأي تطور سياسي نحو وضع أكثر ديمقراطية. وهكذا كان اليأس من إمكانية التغيير من خلال الدستور الذي أغلق كل المنافذ، دافعاً رئيسياً وراء الاحتجاجات التي استطاعت أخيراً إطاحة النظام بكامله وضمنه الدستور نفسه. إن الطريقة التي تتعامل أغلب النظم العربية مع "أبو القوانين" قد أسقطت عنه طبيعته السامية، وجعلت منه مجرد وثيقة تعكس رغبات حاكم فرد، ولا تحظى بالإجماع الوطني، وتصبح مجرد ورقة تستخدم من جانب طرف واحد في الصراع السياسي، بدلا من أن تكون المرجع المرشد لدى كل الفاعلين السياسيين، إذ يحتكمون إليه عندما يحتد بينهم الخلاف، ويرتضون بما تقضى به نصوصه أيا كان تأثيرها على مصالحهم. د.عبد العظيم محمود حنفي كاتب مصري ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"