لا يخفى على كل عين بصيرة، وأذن سميعة، وعقل فهيم، أن الحضور الثقافي الآسيوي في بلدان الخليج العربي وصل إلى حد إثارة القلق لدى البعض على الهوية العربية للخليج، ولكن أحداً لم يفكر في الاتجاه المغاير، الذي يصنع من عادات وتقاليد وأنماط فكر الآسيويين عنصراً مضافاً للثقافة العربية الخليجية، حين يتم هضمها في الموروث الثقافي الخليجي، على غرار ما جرى في مطلع الحضارة العربية- الإسلامية حين ساهم غير العرب من الفرس والأتراك وسكان بلاد ما وراء النهر في المنتج الحضاري الإسلامي، بشكل كبير، أفاد العرب أنفسهم، وأعطى حضارتهم التي دارت شكلاً ومضموناً حول الإسلام عمقاً ورسوخاً ظاهرين. ولم يتبين إلى الآن أن هناك خطة لاستغلال المجال الثقافي المشترك بين الخليج وآسيا، بما يحافظ على صورة كل منهما لدى الآخر جلية من دون خدوش، وبما يصون الطابع الوطني الصحيح لكلا الطرفين، ويحول دون امتداد التشويه المنظم للصورة العربية في نظر الآسيويين، جراء نشاط القوى التي تبذل جهداً مفضوحاً لربط الإرهاب بالعرب والمسلمين. ولكن غلبة الرؤية المتشائمة على المتفائلة حيال الثقافة الآسيوية في الخليج لا تنبني على فراغ، وإنما على عوامل موضوعية، تجعل كثيرين يطمئنون إلى وجهة نظرهم التي تنادي بضرورة اتخاذ ما يلزم حيال الحفاظ على هوية الخليج العربي. فالآسيويون أصبحوا في بعض البلدان الخليجية أكثر عدداً مقارنة بالمواطنين والوافدين العرب معاً، كما أن المجتمعات الخليجية التي انتقلت فجأة من (ثقافة اللؤلؤ) إلى (ثقافة النفط) لم ترسخ بعد إلى الحد الذي تمتلك معه حصانة ومناعة في وجه (الثقافات الوافدة)، علاوة على أن الآسيويين، تواجدوا في نسيج الأسرة الخليجية، وباتوا يلعبون دوراً في عمليات التنشئة الاجتمـاعية، يتوازى مع دورهم الاقتصادي. وما يزيد الوضع تعقيداً أن البعض قد لا يعنيهم كثيراً أن يكتسب الوافدون الآسيويون الثقافة العربية، وقد لا يهتمون بأن يصبح التفاعل الثقافي متكافئاً بين الطرفين، بصيغة تجعل كلاً منهما يغذي الآخر وينشطه، ولا يرمي إلى محوه. كما أن بعض الشباب الخليجي نفسه يزداد مع مطلع كل يوم غربة عن واقعه، شأنه في ذلك شأن الشباب العربي، بفعل ثقافة العولمة. وتشتد وطأة هذا الخلل في العلاقة الثقافية الخليجية- الآسيوية المتبادلة مع ظهور مؤشرات على استمرار الطلب الخليجي على العمالة الوافدة نتيجة التوسع في المشروعات التنموية. وتؤكد شركة "ماكينزي العالمية" هذا التوقع، إذ ذكرت في إحصائيات لها أن متوسط معدل نمو العمالة الوافدة في دول مجلس التعاون الخليجي سيصل إلى 92 في المئة خلال العقد الحالي. كما أن الحضور الجسدي للآسيويين في الخليج بهذه الكثافة يواكبه حضور ثقافي، يظهر للعيان في تفاصيل الحياة اليومية ببعض المدن الخليجية. فاللغة المستعملة للبيع والشراء والتواصل اليومي هي خليط من العربية والأوردية والإنجليزية وبعض اللغات الآسيوية المحلية، ولافتات المحال تنطق بهذا الخليط. وتوجد في بلدان الخليج المدارس الأجنبية، ومنها الآسيوية، التي أقيمت في البداية لتعليم أبناء الجاليات الوافدة من آسيا وغيرها، ولكنها أصبحت مع مرور الأيام تستقطب بعض التلاميذ الخليجيين أنفسهم، الأمر الذي قد يهدد تدريجيّاً الثقافة الأصيلة للمواطنين. ولا تقف الثقافة الآسيوية على أبواب المنازل الخليجية، مكتفية باقتحام أعين المواطنين وأذواقهم وأفكارهم في الشوارع والمنتديات العامة، بل قد تدخل إلى صميم الأسرة الخليجية، من خلال خدم المنازل، الذين يتوزعون بين المربيات والخادمات والسائقين. فالمربيات يؤثرن في مجمل العادات والتقاليد والقيم التي ينشأ عليها الأطفال الصغار، بما فيها العلاقات العاطفية والإنسانية، ومختلف أنماط السلوك من ملبس ومأكل وطريقة تصرف. ويزداد دور وتأثير المربيات والخادمات اللاتي يربو عددهن على الثلاثة ملايين في كل دول مجلس التعاون الخليجي الست، مع انشغال عائلي الأسر عن الأبناء في زحمة الحياة، وتنامي الروح الفردية التي تصم مرحلة ما بعد ظهور النفط. وبالطبع فإن هذه الأمور ليست بعيدة عن تفكير ورؤية أصحاب القرار في الخليج. فقضية تأثير العمالة الآسيوية في الثقافة العربية قتلت تناولاً وبحثاً، ويثار حولها جدل متجدد، يحتدم أحياناً ويخفت أحياناً أخرى، ولكنها تظل في مرتبة أدنى من انشغال الذهن الخليجي مقارنة بالتأثيرات الاقتصادية والأمنية للعمالة الوافدة، مع أن الأخيرة تبدو أيسر بكثير من الأولى. وفوق هذا فالآسيويون يشكلون منافساً كبيراً للمواطنين الباحثين عن وظائف، وقد يؤثرون أيضاً في الحياة الثقافية والاجتماعية الخليجية.