يوم أشعل النار بنفسه الشهيد التونسي محمد بوعزيزي توقفت عن الكتابةِ الصحفيةُ المصريةُ الناشطةُ نوّارة نجم. وفي 25 يناير انطلقت بالكلام من ميدان التحرير 18 يوماً عبر الموبايل وبث يومياتها على مدونتها "التهييس". وكان أول تصريح لإحدى الفضائيات لحظة الإعلان عن تنحي مبارك زغرودتها المصرية الطويلة. يا نوارة، ابنةَ الشاعر أحمد فؤاد نجم، إنت نورت البلد كليها! زغرودتك أشعلت النار في قلوب شقيقاتك وأشقائك من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وزغرودة العراقيات "هلهلولة" يمتزج فيها خشوع "التهليل" وجذل المطر عندما يهلّ مدراراً. وسيجعل هذا ثورتي الشباب المصريين والعراقيين أقرب لبعضهما من ثورتي يوليو 1952 وتموز 1958. ذلك لأن ثورة الشباب المصري التي انطلقت أمام أنظار العالم ليست ثورة جماهير معدمة مسحوقة، بل ثورة خريجي جامعات ومعاهد محرومين من العمل. وإذا كان هناك دور لمؤامرة خارجية فينبغي البحث عنه ليس في "العيال" المترفين الذين أشعلوا الثورة بواسطة "فيسبوك"، بل في الأزمة المالية العالمية. تعرض ذلك الباحثة الاقتصادية الأميركية إيلين براون في دراسة عنوانها "الولاّعة المصرية"، وفيها تتناول "كيف تجوّع المصارف والمستثمرون العالم الثالث". الزيادة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في مصر بلغت 17 في المئة سنوياً، وليس خطر شح الأغذية والمجاعة سببه كما يدّعي اقتصاديون غربيون زيادة استهلاك المصريين والهنود والصينيين للطعام، بل لأن رؤوس الأموال التي هربت من سوق العقارات وجدت البديل في سوق الأغذية. وتستشهد براون بالمثل الدارج "لا تعبث بأكلك"، عندما تكشف مطاردة أموال كثيرة سلعاً مختارة كالأغذية والوقود في حين جفّت السيولة النقدية في مصارف عالمية كبرى أفلست بالمعنى الحرفي للكلمة. وقوة ثورات الشباب من قوة شبكة الاتصالات الاجتماعية التي تتلهف إلى الأيدي الشابة أكثر من تلهف الكلاشنيكوف لأيدي آبائهم في القرن الماضي. إنها سلاح القناصة الأفراد، الذي يتيح المجال للإبداع والمبادرة الذاتية، في أدغال المعلومات الفورية. ويفسر هذا سبب الانصراف في العالم العربي وخارجه عن الأحزاب القديمة، الدينية والعلمانية، التي تقوم على الانضباط والتنظيم التراتبي. وقد خبرتُ قوة التكنولوجيا الجديدة يوم الخميس الماضي حين تسلل فيروس إلى بريدي الإلكتروني، ونبّهني إليه قبل أن انتبه أستاذ في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، أعقبته علامات استفهام من أستاذة عراقية في جامعة مونبلييه بفرنسا، وملاحظة مستشار بالنفط في الإمارات، وتساؤل مناضل "مخضرم" في بغداد عن سبب احتجاب بريدي عنه، وتحذير أديب يدير في السويد موقع إنترنت للثقافة الرفيعة، وإرشادات عملية لمواجهة المشكلة من عالم ذرة في الدوحة، ومفاجآت لا تخطر قط على البال، كرسالة الأكاديمي الوحيد الذي أعلن استقالته من منصبه كمستشار للحاكم الأميركي بريمر احتجاجاً على الاحتلال، وتساؤل رجل أعمال ظريف مقيم في لندن عن حاجة العراقيين المحظوظين بتمر "الخستاوي" إلى "الفياغرا" التي يروج لها الفيروس! تلقائية الرسائل وفوريتها أهم ملامح شبكة الاتصالات الاجتماعية التي تتكون وتنحل فورياً. شبكة طوارئ متأهبة على مدار الساعة تقلب الحكمة التقليدية التي تقول إن الكذبة تدور حول العالم فيما تحاول الحقيقة ارتداء حذاءها. اليوم تنبهر أنفاس الأكاذيب في ملاحقة حقائق يتبادل تمحيصها والتعليق عليها الناس عبر القارات والثقافات. في هذا "المطب"، لفظ الإعلام الرسمي المصري أنفاسه الأخيرة. والتنبؤ عسير بثورة الشبكة الاجتماعية، ذلك لأنها لا تبحث عن أجوبة بل عن أسئلة. وسحر التكنولوجيا الاجتماعية، ليس بمعنى جمالها، وهي جميلة، بل قدرتها السحرية على إطلاق الشباب أحراراً خارج سجن التعصب القومي والطائفي، الذي يطبق على العقول والأرواح. وأجمل ما في شبكة الاتصالات الاجتماعية أن النساء يشكلن عمودها الفقري. يفسر ذلك المحرر الاقتصادي لـ"بي بي سي" بتغيرات طرأت على أسواق العمل التي تغص حالياً بعشرات الألوف من خريجات الجامعات الباحثات عن فرص للعمل، وقد عثرت الثورات الجديدة فيهن على قياداتها الجاهزة والمحنكة. وقد كانت مبرمجة كومبيوتر عراقية شابة أول من كشف وقائع الفساد في العراق خلال الشهور الأولى من الاحتلال. وإذا كان شباب الثورة المصرية، كما يصفهم الشعار، "ورد الجناين"، فشابات الثورة العراقية المقبلة لا يشبهن الورد بل الورد يشبههن، ذلك لأن شبكة الاتصالات الاجتماعية مفصّلة على مقاسهن، وعبرها سيكشفن لماذا جاء تسلسل جامعة الكوفة في المرتبة 6097 في تصنيف الجامعات العالمي هذا العام، وكيف انحدرت الجامعة التكنولوجية التي كانت في مقدمة جامعات المنطقة إلى المرتبة 6503، وتقهقرت جامعة السليمانية التي مضى على إنشائها أربعون عاماً إلى المرتبة 6664، وجامعة دهوك 8781، ولماذا تدهورت الجامعة المستنصرية التي كانت من أبرز الجامعات العراقية إلى المرتبة 10264، وانحدرت جامعة الموصل التي قاومت محاولات نهبها وتخريبها بعد الغزو إلى المرتبة 10738 وتبعتها رديفتها جامعة البصرة في المرتبة 11406. هل ستنطلق شرارة الثورة من مظاهرة الجمعة القادمة في بغداد التي دعا لها مثقفون وزعماء دينيون؟ أشك في ذلك، فلم تطلق في تاريخ العراق أكاذيب عن أهله قدر ما أطلق عشية الغزو والاحتلال؛ الكذب على تاريخ البلد وجغرافيته ورجالاته وفكره وعقائده، الكذب على روح العراق وبدنه. وهل هناك كذب أشنع من تسمية غزو بلد تحريراً واحتلاله تغييراً؟ وقوة الثورات ليست في قوتها على أعدائها بل قوة أهلها، أفراداً وجماعات على أنفسهم، والنقد الذاتي هو القانون السيكولوجي للثورات. صرخات "آه يا مصر آه يا مصر" التي جعلت العالم يبكي عندما رددها الملايين في ميدان التحرير كانت لحظة اكتشاف عمق الذل الذي أُنزل بشعب من أعرق شعوب الأرض. هذه اللحظة اعتبرها الرئيس الأميركي في خطابه المكرس للمصريين "من اللحظات في حياتنا التي تتيح لنا ميزة مشاهدة التاريخ وهو يتكشف. لقد نطق الشعب المصري فسمعت أصواته ولن تبقى مصر على ما كانت عليه أبداً". أوباما كان ضمن أقلية في الكونغرس عارضت غزو العراق عام 2003، وأعجز عن تصور كيف سيخاطب العراقيين عندما يكتشفون عمق المهانة التي أنزلها بهم الاحتلال. بانتظار ذلك نحتفل بثورة المصريين، ونقول لهم ما قالته نواره نجم للتونسيين: "قلبين وسهم وبوسه كمان"!