عندما شاهدت مبارك يخاطب الشعب المصري الأسبوع الماضي، قلت لنفسي" لم يكن هناك ما يستدعي أن يكون الأمر على هذا النحو". في مايو 2005، وبصفتي وزيرة لخارجية الولايات المتحدة، وصلت إلى الجامعة الأميركية في القاهرة، كي ألقي كلمة في وقت كان زخم التغيير الديمقراطي يشهد مداً متصاعداً في المنطقة. قلت في ذلك الوقت، مستلهمه ما كان بوش الابن قد قاله في خطاب افتتاح فترة ولايته الثانية، إن الولايات المتحدة ستقف مع الشعب الذي يسعى لنيل حريته. كان ذلك بمثابة اعتراف بأن واشنطن، وفي منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي منطقة أخرى، كانت تسعى إلى تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية. وفي النهاية لم تتمكن من تحقيق أي منهما. كما كان ذلك تأكيداً على إيماننا بأن الرغبة في الحرية هي رغبة عالمية - ليست غريبة، وإنما إنسانية - وأن تحقيق هذه الرغبة هو الذي يقود إلى الاستقرار الحقيقي في النهاية. لبعض الوقت، بدا أن القيادة المصرية تستجيب، ليس لنا، وإنما لشعبها الذي يطالب بالتغيير. كان المصريون في ذلك الوقت قد شاهدوا للتو على شاشات التلفزة انسحاب القوات السورية من لبنان وتشكيل حكومة جديدة هناك، كما كانوا قد شاهدوا الانتخابات الحرة في العراق، وبروز قيادة جديدة في فلسطين، كما شهدوا بعد ذلك بعدة شهور، انتخابات رئاسية في بلدهم أكثر حرية من سابقتها، وإن لم تكن حرة تماماً، جاءت عقب سجال مدني مصري صاخب في المقاهي والمنتديات وعلى شبكة الإنترنت. وعلى الرغم من أن مبارك قد فاز بأغلبية كاسحة في تلك الانتخابات، فإن الأمر قد بدا حينها، وكأن المصريين قد عبروا نقطة حاسمة. ولكن الذي حدث بعد ذلك بوقت قصير هو أن مبارك تراجع عما كان بدأه، وأجرى انتخابات برلمانية، لا يمكن أن توصف سوى بالمهزلة، كما أبقى قانون الطوارئ البغيض في مكانه، وزج بالشخصيات المعارضة في السجون. وقد جعل ذلك الشعب المصري يغلي وهو غليان تفجر من خلال بركان من الغضب في ميدان التحرير في نهاية المطاف. والدرس الذي يقدمه ذلك الانفجار للزعماء الآخرين في المنطقة هو ضرورة الإسراع بالإصلاحات السياسية والاقتصادية المؤجلة منذ زمن طويل. الولايات المتحدة تعرف أن الديمقراطية عملية طويلة، وأنها يمكن أن تكون غير منظمة، ومضطربة، بل وفوضوية في بعض الأحيان، كما أنني شخصياً لا أقلل بحال من التحدي الذي يمثله أي مستقبل غير مضمون في مصر على المصالح الأميركية. واعترف بأن نظام مبارك على الرغم من كل عيوبه، قد نجح في المحافظة على سلام بارد مع إسرائيل، كان يمثل عاموداً من أعمدة السياسة الخارجية لمصر، كما أنه دعم فتح وساعد على إقصاء "حماس". ولكنه لم ينجح في تحقيق ذلك بشكل كامل، لأنه كان يخشى من "الشارع". إننا لا نستطيع أن نملي على حكومة مصر القادمة خياراتها الخارجية، وإن كنا نستطيع التأثير عليها من خلال علاقاتنا بمؤسستها العسكرية، والروابط التي ننجح في إقامتها مع مجتمعها المدني، والوعود التي نقدمها لتلك الحكومة بتوفير مساعدة اقتصادية، وتعزيز التجارة الحرة بين البلدين، من أجل تحسين حياة جزء كبير من الشعب المصري. الخطوة الأهم التي يتعين علينا القيام بها في الوقت الراهن هي التعبير عن ثقتنا بالمستقبل الديمقراطي لمصر. علاوة على ذلك فإن مصر تمتلك مؤسسات أقوى، كما أن علمانيتها أكثر رسوخاً من غيرها. من المحتم أن يتنافس "الأخوان المسلمون" على تمثيل الإرادة الشعبية في انتخابات حرة ونزيهة تعقد في مصر والواجب في مثل هذه الحالة إجبارهم على تقديم حججهم والدفاع عن رؤيتهم لمصر من خلال الإجابة على الأسئلة التالية: هل يريدون فرض الشريعة الإسلامية على المجتمع؟ هل يريدون مستقبلاً من الهجمات الانتحارية والرفض العنيف لوجود إسرائيل؟ وماذا عن تنظيم"القاعدة"؟ من أين ستتمكن مصر من الحصول على وظائف لشعبها؟ هل يتوقعون أنهم سيستطيعون تحسين حياة المصريين الذين سيصبحون منقطعين عن المجتمع الدولي، بسبب سياساتهم - إذا وصلوا للحكم - المصممة على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط؟ ما سيأتي لاحقاً أمر يرجع للمصريين؟ فالعديد منهم من الشباب المفعم بالحماس الثوري، ومستقبلهم سوف يشهد لاشك تنافساً بين السياسة الديمقراطية وبين مبادئ الإسلام السياسي الراديكالي. وهو التنافس الذي تتكشف تفاصيله وتتضح ملامحه في مختلف أرجاء المنطقة: في العراق ولبنان وعلى وجه الخصوص في تركيا، حيث أفسحت عقود من العلمانية الطريق لاستيعاب المتدينين في المجال العام. وفي مصر أيضاً سوف يحاول المسيحيون وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى إيجاد مكان لهم والعثور على صوت. إن الشهور، بل السنوات القادمة في الحقيقة سوف تشهد اضطراباً، بيد أن هذا الاضطراب - في نظري - أفضل من الاستقرار الزائف الذي يدعيه الحكم الأتوقراطي، وهو استقرار تجد فيه القوى الشريرة موطئ قدم عبر فجوة الحرية التي يتم من خلالها إخراس الأصوات الديمقراطية. الحكومات الديمقراطية بما في ذلك حكومات حلفائنا الأقربين، لا تتفق معنا على الدوام. ولكنها مع ذلك تقاسمنا إيماننا الأكثر جوهرية على الإطلاق، بأن الشعب يجب أن يُحكم من خلال التراضي. وهذا الأمر صحيح اليوم، مثلما كان صحيحاً عندما قلت عام 2005 إن الخوف من سماع الأصوات الحرة لم يعد قادراً على تبرير إنكار الحرية. وليس أمامنا الآن سوى خيار واحد: هو أن نثق في المدى الطويل للتاريخ، أن عقائدنا المشتركة سوف تكون أكثر أهمية من الاضطرابات المباشرة التي قد تواجهنا، وأن ذلك سيخدم مصالحنا ومبادئنا على خير وجه في خاتمة المطاف. كوندوليزا رايس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزيرة الخارجية الأميركية من 2005 ـ2009 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"