بداية، اعتذاراً لشعب مصر بعد أن أسأنا به، نحن المثقفين، الظنون ونحن في حمأة جلد الذات، والقسوة مع النفس، والندب والعويل الذي تعودنا عليه، وطالما طالت المدة، وانسد الأفق، وطال النفق ودب اليأس في القلوب. وظننا أننا نعبر عن حالة موجودة بالفعل عند الشعب وهي عندنا نحن (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) دون أن نسمع (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). لقد انسدت سبل التغيير، ضعفت أحزاب المعارضة، وزيفت الانتخابات الأخيرة بحيث حصل الحزب الحاكم على كل المقاعد تقريباً. واستأسد الأمن بكافة أشكاله، العلني والسري، من وزارة اعتبرت الشعب عدوها الأول في الطريق وفي أقسام الشرطة وفي المعتقلات والسجون، أمن في يد السلطة والمال، بين التجمع الخامس والعشوائيات، بين المدن الجديدة والقرافة، والنظام له ما يدعمه محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً. واتهمنا الشعب بأنه متخلف لم يرقَ إلى مستوى مجتمع المعرفة، ولم يواكب نظام العالم الجديد، ظل مجتمعاً محليّاً ولم يصبح في مستوى المجتمع العلمي العالمي مثل الصين والهند وإسرائيل. يصعب تغييره. الفقر فيه منذ سبعة آلاف سنة، منذ شكاوى الفلاح الفصيح حتى سكان المقابر والعشوائيات. والقهر مغروز فيه منذ فرعون. سمته المجتمع الأبوي البطريركي. وما كان تاريخاً لمصر أصبح بنية. وما بدأ عادة أصبح طبعاً، وما كان نظاماً أصبح طبيعة وسمة وخاصية، يتحدث عنها علماء الاجتماع الثقافي والسياسي. وانسدت طرق التغيير، أحزاب سياسية ضعيفة، شقة وجريدة وشلة، ومنظمات المجتمع المدني نخبوية، لم يتعود عليها الناس، ومفاهيم ما زالت غير شائعة في الثقافة الشعبية مثل حقوق الإنسان، والتنظيمات لا يعلمها أحد، وطويلة الأمد، ومهما بلغت سريتها فإن الأمن لها بالمرصاد، سرعان ما يكتشف خلاياها. ويكون مصيرها الاعتقال والتعذيب والسجن بلا محاكمة أو بمحاكمة عسكرية صورية تحت مظلة قوانين الطوارئ. وقد تكون الضباط الأحرار في الأربعينيات عصر الفورة الوطنية بكل مكوناتها، ولم تعد الآن، يُحال الضباط وهم في الأربعينات إلى الاستيداع بمعاش كبير للانخراط في الحياة الاقتصادية، وتكوين الشركات الخاصة في عصر الانفتاح الاقتصادي. طبقاً لتحليلات المثقفين السابقة انتهت مصر. وضاع شعبها ولم يجد أمامه إلا الطرق العرجاء والأبواب الخلفية. يفرغ فيها همه. ويبث فيها كربه. ويشكو إليها حزنه. لم يجد إلا الدين والإغراق فيه هروباً إلى الداخل. "الإسلام هو الحل". والحفاظ على الهوية عن طريق الشعائر والمظاهر الخارجية، الذقن والجلباب والطاقية، والحجاب والنقاب والانعزال. والجماعات الإسلامية، مجتمع "طاهر" للتعامل اليومي في الصحة والمرض، في البيع والشراء، في التعليم والعلم، مجتمع "المؤمنين" في مواجهة مجتمع "الكافرين". والمخدرات باب خلفي آخر. يكثر عرضها في الأفلام باعتبارها السلوك المفضل للشباب والرجال، وللمحبطين والعاطلين، للفقراء والمحرومين. وهي أيضاً هروب إلى الداخل في عالم الخيال بعد أن استعصى عالم الواقع. نسيان للهم، وسعادة بالدخان من خلال الأنفاس بعد أن استحالت السعادة في الأسرة والمجتمع. سعرها بين الصعود والهبوط مثل العملات الأجنبية، ونادرة مثل الغذاء. يستهدفها الأمن كما يستهدف الجماعات الدينية والسياسية. فإن غلا الثمن، وبقي لدى الناس نشاط طبيعي فالكرة هي الملاذ. والانتساب إلى النوادي الرياضية والتحزب لها بل والعراك من أجلها بديل عن الانتساب إلى الأحزاب السياسية وعن الانحياز للوطن ضد أعدائه. تتوقف الحياة العامة، وتخلو الطرقات أوقات المباريات. ثم تمتلئ بعدها بهتافات النصر أو بالهجوم على الفريق الآخر الكاسب واتهامه بأبشع الاتهامات ونسيان تاريخه الوطني وأخوته في العروبة والإسلام. كل ذلك رغبة في تحقيق أي نصر، وانتصار في أي معركة. فالثورة ضد الظلم طريق مسدود وليس له إلا الطرق الخلفية يفرغ فيها نشاطه. وإذا كان الشباب ميسور الحال، من الطبقة الجديدة، من أبناء الزمالك و"جاردن سيتي" والمدن الجديدة والتجمع الخامس فإنه يندرج في عالم رجال الأعمال والأسواق الحرة و"المولات"، "السيتي ستارز"، جنينة مول"، والسوبر ماركت، حيث يسيل اللعاب وتنتفخ الجيوب استهلاكاً وربحاً. هو عالم الثراء السريع وما يتضمنه من رشاوى وفساد في نظام سياسي يقوم على السلطة والمال. فإن صعب الحال أو طالت المدة بدأ التسلق على الحزب الحاكم بالانضمام إليه وإلى لجانه السياسية والاقتصادية والإعلامية. فتسهل السلطة ما عصى على الثروة. ويبرز الإعلام ما أخفته النجوع. فإذا استعصى ذلك كله نظراً لطول طوابير الانتظار وغياب ضربات الحظ بدأ الوقوف في طوابير السفارات الأجنبية سعياً لتأشيرة دخول بعقد عمل أو هجرة دائمة. فإن استعصت الهجرة الشرعية فالهجرة غير الشرعية عن طريق البحر. الموت غرقاً بدلًا من الموت جوعاً. فالحل عند الآخر بعد أن استعصت الحلول في الوطن. والثراء المنتظر في المستقبل أفضل من الفقر المدقع المستمر في الحاضر. فإن أغلقت كل الأبواب الأمامية والخلفية فقد انتهى كل شيء. ولم يبق إلا الانتحار حرقاً في الميادين العامة أو أمام مجالس الشعب والشورى. الخروج من الحياة بعد الخروج من التاريخ. وفجأة، وعلى غير انتظار حدث ما لم تتوقعه تحليلاتنا نحن المثقفين. بل وانقلب بعضها رأساً على عقب، من التطرف الديني والمخدرات والكرة و"المولات" والحزب الحاكم والهجرة ونهاية التاريخ إلى الانتفاضة والثورة والغضب والصمود والطوفان. وظهرت نهاية النفق. وعادت الروح. وظهر شعب مصر وتاريخه وكرامته وشبابه ومستقبله. وأبدع ثورة مصرية بعد ثورة تونسية تفوق الثورات الفرنسية والروسية والأميركية وانتفاضات الشعوب في أوروبا الشرقية. فعذراً شعب مصر، أسأنا بك الظن وأنت أحسنت الظن بالتاريخ. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا). عذراً شعب مصر.