كل جديد على القارة الأفريقية، من أديان سماوية إلى ثقافة التدوين، إلى تقاليد السلطة والحكم، وحتى ثورة يوليو 1952 كانت فاتحة كل عمل من أعمال التحرر الأفريقي من الاستعمار، حتى كانت الثورات العظمى عربية بدورها فتسهم بموجة العطاء العربي العظيم! رفضت الثقافة السياسية العربية كثيراً من منجزات الثورات الأفريقية الحديثة على الأقل، بل وأدى تحفظها -المعيب أحياناً- إلى تجاهل دراسة النماذج الأفريقية، أو احتضان دلالاتها، ناهيك عن الاستفادة منها، بوضعها في مكانها من التثقيف السياسي الواجب للمواطن العربي، ليخرج من تكلساته في جلده المتقادم إلى عالم جديد ...عالم الجنوب، وما به من تجارب الشعوب الأفريقية وثوراتها. ولنعبر هنا على بعض من ذلك: - قد نحتاج إلى مثال التصاعد في مقاومة النظام العنصري حتى القضاء عليه مع مطلع التسعينيات من القرن العشرين، بما تضمنه الدرس عن تعبئة الجماهير الأفريقية وتوحدها حول حركة التحرير ونضالها السلمي والمسلح؛ إلى تفعيل المجتمع بمختلف فئاته وطبقاته ومنها قوى المرأة والعمال، إلى قدرة قيادته الكاريزمية على فهم قيمة تداول السلطة حتى تصل إلى استكمال البنية الديمقراطية، التي تمثل ثورة وإنْ في الحدود الممكنة هناك حتى هذه اللحظة، ولتشهد البلاد ثلاثة رؤساء في أقل من عشرين عامًا وبرلماناً يشكل النساء ثلث أعضائه. أين ذلك بالضبط من حال الثورة الفلسطينية وإطارها العربي في مجمله، وفي مواجهة النظام الصهيوني على أرض فلسطين؟ -وإذا كانت انتفاضات الشعبين التونسي والمصري مؤخرًا تمتد من الأحداث الكبرى في هذا العصر، ضمن كتلة بشرية تحمل الصفة العربية، وإلى حد تمني بعض كتاب أفريقيا أنفسهم أن تهب رياح مماثلة على جنوب الصحراء الأفريقية في ظروف شعوبها التي تزداد ابتئاساً، فإننا نشير هنا إلى سابق تمنياتنا أن نشهد أيضاً بعض ما شهدته "أفريقيا جنوب الصحراء" من صور التحولات والمشاهد السياسية ذات الجدة، خاصة عقب سقوط ما يعرف بحائط برلين أوائل التسعينيات، بل وقبل ذلك بسنوات؛ حتى أننا عددنا مرة ما يفوق العشرة من البلدان الأفريقية التي تعرف من أبنائها من حمل صيغة "الرئيس السابق" من السنغال حتى كينيا، ومن مالي حتى زامبيا وجنوب أفريقيا. وتحدثنا كثيراً أيضاً عن تجارب التحولات الكبرى في مجال العمل السياسي الثوري عبر "مؤتمرات السيادة الشعبية الوطنية" التي أطاحت بنظم بعضها عسكري ضارب في الاستبداد (بنين- النيجر- مالي- بوركينا فاسو- الكونغو)، وبعضها عبر تصعيد العمل الوطني الديمقراطي حتى يتم تحقيق الهدف الشعبي (غانا- مدغشقر... الخ)؛ وفي كثير من هذه الحالات الثورية الأفريقية. ومن خلال هذه التحولات سقطت نماذج الحكام الأبويين (سنجور في السنغال، أهيدجو في الكاميرون، كاوندا في زامبيا)، وبرزت قوى الحركات الاجتماعية القديمة والجديدة (العمال والفلاحين في أكثر من مثال، كما برز دور المرأة الأفريقية مشاركة في كثير من التطورات، بل وبرز نموذج زحف الريف على الحضر، أو زحف أبناء الأقاليم عموماً على العواصم مثلما حدث في أوغندا وإثيوبيا وإريتريا والكونغو، فيما قيل عنه إنه استلهام للتجربة "الماوية" الصينية، انطلاقًا من مدرسة الفكر السياسي في دار السلام طوال الستينيات والسبعينيات، أو أنه تطوير أفريقي متوقع لتجارب الكفاح المسلح في أنجولا وموزمبيق وغينيا بيساو... الخ. هنا يمكن ذكر التجربة التونسية الأخيرة التي انطلقت فيها الثورة من سيدي بوزيد إلى العاصمة، بينما طرحت الانتفاضة في مصر تجربة انضمام قوى الشباب "الفيس بوكي" أو شباب الإنترنت إلى مفهوم الحركات الاجتماعية الجديدة. ويأتي ذلك بعد أن سخرنا من إمكانيات قوى "أبناء الآفاق" أو "الجنوبيين" في تونس، أو من الشباب المنكفئ على الذات الفردية المعولمة في مصر بالإضافة إلى دخول أجيال السن وزخم الفئات الفقيرة والمتعلمة الرافض للاستبداد والإفقار. ولعل ذلك يعرض على مثقفي الشمال الأفريقي العربي أن يتعلموا بدورهم الدرس، من مخاطر الانكفاء على الذات العربية، وهم غارقين في العولمة، وأن يلتفتوا جنوباً، مثلما هم محدقو النظر إلى الشمال الأوروبي، متغنين فقط بمفاهيم الحركات الاجتماعية القديمة أو الجديدة "بألوانها" المتنوعة، أو مورثين شعوبنا أوهاماًَ حول الإرهاب والتطرف. بينما يطرح الواقع أمامهم على مستوى العالمين الأفريقي والعربي، كل جديد ومختلف عن دوائر هذه الأوهام! -بقي أن نقول إننا لا نتوقع دائماً صوراً وردية لتأثيرات الشمال في الجنوب أو العكس، ومع ذلك مازال يلفت نظرنا سؤال بعض الكُتاب الأفارقة عن مدى احتمال أن تشهد القارة الأفريقية رياحاً قادمة من الشمال الأفريقي إلى جنوب الصحراء- ولا شك أن الإنسان يسعد بهذه الأمنية لثقة الكاتب الأفريقي في علاقة المنطقتين بما لم يفعله كثير من الكتاب العرب. وقد حاولت أن أعرف مصدر قلق أو تمني ذلك الكاتب، فيما يتوقعه من أحداث قريبة بالقارة، ورحت أبحث في قائمة الأحداث السياسية المتوقعة قريبًا، والتي اعتدنا أن تكون مثيرة بطبعها، للمخاطر أو الآمال في عبورها بنجاح. يسهل على القارئ بالطبع أن يخمن أن الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية في هذه الدولة أو تلك، ستكون مصدر هذه التوقعات أو تلك أيضاً، وبتأمل سريع لقائمة أجندة هذه الانتخابات في أنحاء أفريقيا "جنوب الصحراء" وجدت أن عشراً منها على الأقل (رئاسية وبرلمانية) ستجرى في الشهور الستة القادمة؛ بعضها يوحي بالخوف، وإن كان القليل يوحي بالأمل (تضم القائمة: أوغندا، تشاد، النيجر، نيجيريا، مدغشقر، بنين، جامبيا، سيشيل كاب فيرد، ساوتومي". المخاوف تحيط بأوغندا والرئيس موسيفيني يحدد ترشيحه بعد ربع قرن من حكمه غير المعروف بديمقراطيته؛ ومثله في تشاد بالتأكيد حيث أحداث العنف المتبادل مع المعارضين ممتدة إلى حدودها مع دارفور، ومشاكله مع الحكم في السودان. وتأتى نيجيريا، كمثال على التصارع الدائم بين القبلية (هوسا/ يوروبا/ إبيو) وبين الإقليمية أو الجهوية (شمال/ غرب/ شرق) بل وبين العسكر والمدنيين التقليديين، ناهيك عن تمردات ثورية في دلتا النيجر، أو طائفية بين مسلمين ومسيحيين في زاريا وجوس.. الخ. وهذه خريطة مؤسفة نأمل أن تعبر منها البلاد خلال شهر أبريل 2011 بسلام، وإلا شهدت أفريقيا أعتى الرياح القادمة من الماضي، وليس من شمال أو جنوب! دعونا نأمل أيضاً أن نعبر شهر يوليو حيث يعلن انفصال جنوب السودان بمسماه الجديد، الذي لم يعلن بعد، وهو الذي يمكن أن يمضي بسلام، بقدر ما قد يبعث برياح السموم إلى أقصى الجنوب والشمال على السواء.