كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل تعتبر مصر صديقة. لكنها عندما وقعت الواقعة عبّرت عن هذه "الصداقة" بردود فعل فاشلة ومريبة وكثيرة التذبذب والارتباك. ردود أحدثت صدمة أخرى للحكم المصري، إذ لم يخف نائب الرئيس المعيَّن حديثاً وتحت وطأة الضرورة استغرابه مما يسمع من الدول "الصديقة"، فهو يعرف بحكم موقعه وخوضه في عمق الملفات الشيء الكثير عن دواخل تلك الصداقات. لكن هذا هو واقع العلاقات بين الدول، فالحكم القائم يكون الجميع أمه وأباه وإذا أدركه الأفول ينفض الجميع عنه بل يتزاحمون على نصحه. هبَّ الشعب المصري كما لم يفعل من قبل، للمطالبة بالتغيير والإصلاح، بتصويب مسار الاقتصاد ومكافحة فاعلة للفساد، وكذلك لاستعادة حريته وكرامته... أي للمطالبة بكل ما كان "الأصدقاء" -باستثناء إسرائيل- يطالبون به لا مصر وحدها وإنما مجمل الدول العربية. لكن الحكومات رفضت تدخلهم في شؤونها، فكان لها ذلك. وفي أي حال، سبق لهؤلاء "الأصدقاء" أن أجروا مراجعات لمطالبهم بعدما أدركوا أن الديمقراطية لا تناسبهم، فإذا عنت صناديق اقتراع فإن المنتخبين بشكل حر ونزيه لن يكونوا طوع بنانهم. المهم أنه حين انبرى الشعب لجعل الإصلاح جزءاً من مستقبله، خشي "الأصدقاء" على نفوذهم ومصالحهم. لكن، لمَ الخوف، أليست هذه مصالح متبادلة بين دول، أم أنهم كانوا يدركون أنها مصالح تأمنت لهم في غفلة من الشعب ومن دون إرادته؟ الأغرب في مواقف الأميركيين والأوروبيين أنها، كما بالنسبة إلى تونس من قبل، تلوثت بالإصرار على الإيحاء بأن التغيير سيكون بفضلها. لم يردعها أن تحرك الشعب في الشارع سبق الحكم وأصدقاءه ولم يعد مهمّاً ما يقولونه. أرادوا الإيحاء أيضاً بأنهم يحمون حرية التعبير السلمي عبر لازمة "عدم استخدام القمع والعنف" التي راحوا يرددونها وكأنهم هم من يعطي الأوامر أو يمنعها. لم يعلموا أن المنازلة بين الهتاف العاري وبين الهراوة والرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع انحسمت لصالح المحتجين. وحتى عندما بدأ البحث عن المخارج المناسبة، كان "الأصدقاء" ينامون على خيار ويصحون على نقيضه. لم يشأوا الاعتراف بأن دينامية "ميدان التحرير" تسترشد ببوصلة وطنية نظيفة لا علاقة لها بما يريدون أو يتمنون. ما الحكمة في أن يبدي الخارج، خصوصاً الأميركي، أن التغيير الآتي سيأتي بمشاركته أو حتى بإرادته. أقل ما يقال في ذلك إنه نقيض مفضوح لكل الدعوات إلى "الإصلاح". فالمسألة هي أساساً داخلية، بين الحكم والشعب، ولو كانت التدخلات الخارجية السابقة "صديقة" فعلاً ورشيدة لربما أمكن لهذا الحكم أن يتجنب هذا المصير القاتم. لعل إحدى قراءات الانتفاضة المصرية يمكن أن تفيد الأميركيين في إيجاد إجابة عن السؤال الذي لا ينفكون يطرحونه: لماذا يكرهوننا؟.. إنهم يكرهون كل من يساهم على نحو مباشر، أو غير مباشر، في تغليظ يد القمع والقهر ثم يتظاهر الآن بأنه بريء منها. لكن ذروة الفشل والغباء، أو قل الوقاحة، بلغها "الأصدقاء" الإسرائيليون. ولم يكن في مواقفهم ما يدعو إلى الاستغراب. فهؤلاء صالحتهم مصر ولم يقدّروا ما فعلت، بل أخذوا السلام معها ورقة لتسويغ عبثهم، ومنصة للانطلاق منها إلى مشاريع هيمنة وسيطرة وعربدة. صالحتهم مصر ولم يعرفوا كيف يرعون النبتة التي زرعتها في قلب العالم العربي، بل سحقوها وقتلوها وجعلوا من السلام إساءة لمصر، وبالتالي لجميع العرب. ولعل الأسوأ أن "الأصدقاء" الأميركيين والأوروبيين انشغلوا أكثر ما انشغلوا في معمعة الانتفاضة المصرية بجمع "ضمانات" لمعاهدة السلام، فبدوا هم أيضاً وكأنهم لا يعرفون مصر ولا ما الذي دهى شعبها.