عندما شرعت في كتابة هذه السطور كان كل ما يمكن أن يقال من آراء بشأن الثورة المصرية العظيمة قد قيل، وبغض النظر عن حق الشباب الذي فجر الثورة في أن يتمسك بمطلبه الأساس فإن المرء عندما يلقي نظرة شاملة على ما حدث في مصر منذ يوم 25 يناير لا يصدق نفسه، ففي حوالي أسبوعين حققت مصر بفضل شبابها ما أخفقت في تحقيقه طيلة عقود: عُيِنَ نائبٌ لرئيس الجمهورية وتغيرت الوزارة -مع التحفظ على الطريقة التي شكلت بها، وهو تحفظ يشارك فيه رئيس الوزراء نفسه- وسقط إلى الأبد مشروع التوريث، وأُطيحَ بالمكتب السياسي للحزب الوطني المسؤول عن كارثة تزوير الانتخابات البرلمانية -مع كل الملاحظات حول التشكيل الجديد للمكتب- ودخلت قوة سياسية مهمة إلى دائرة الحوار، ومع أنني لست من مؤيدي فكرة الحكم الديني على الإطلاق بكل صورها وأشكالها إلا أن دخول "الإخوان المسلمين" ساحة الحوار من شأنه أن يكون عامل استقرار في اللحظة الراهنة، وخاصة أنهم قد ساهموا بصورة أو بأخرى في الثورة الحالية إلى الدرجة التي خشي معها البعض أن يكونوا في سبيلهم إلى سرقة الثورة والقفز على الحكم في هذه اللحظة التاريخية. ما تحقق كثير إذن، وما لم يتحقق أكثر، ولكن الفكرة كما سبقت الإشارة أن أحداً لم يكن يتصور أن تحدث هذه التحولات في أيام قليلة. ولكن هذا لا يعني أن ثورة شباب مصر بلا مشاكل، وهي مشاكل تتعلق بإدارة عملية التغير الثوري الراهن، وعندما يراجع المرء هذه العملية بطول الوطن العربي وعرضه منذ حصلت بلدانه على استقلالها في أعقاب الحرب العالمية الثانية يجد أنها بدأت بداية هزيلة عبر آليات الانقلابات العسكرية الخالية من أي مضمون، وكان بعضها رهناً بمصالح أجنبية لاشك فيها، وانتهت هذه الانقلابات كما بدأت من دون أن تحدث تغييراً يذكر، ونموذجها الأشهر هو الانقلابات العسكرية السورية في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته. ثم دخلت عملية التغيير منعطفاً جديداً عبر انقلاب عسكري أيضاً تمثل في ثورة يوليو 1952، وهو انقلاب أيده الشعب بوضوح لأنه كان يستجيب لمتطلبات التغيير في ذلك الوقت، الأمر الذي فتح الباب لتكييفه على أنه ثورة، ولكن البعض لم يكن يرى فيه سوى نظام ديكتاتوري عسكري، وإن كان قد تميز بالتأكيد عن سابقيه من الانقلابات العسكرية بأنه تبنى مشروعاً حقيقيّاً لتغيير يقوم أساساً على الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية بالإضافة إلى أبعاده العربية المعروفة. وبهزيمة يونيو 1967 اهتزت شرعية النظام على نحو جذري، والواقع أنه لولا مواصلة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء لانتهت هذه الشرعية تماماً، غير أن الأسوأ أن يوليو 1952 فتح الباب أمام عديد من الانقلابات التي تشبهت به وإن لم يكن هدفها سوى الاستئثار بالسلطة، وحتى تلك التي أحدثت تغييرات إيجابية في المجتمع بالغت في قمع جماهيرها على نحو غير مسبوق أفقد ما حققته أي قيمة. ثم تكفلت التطورات بسقوط هذه النظم أو معظمها، ولكن السقوط تم هذه المرة بآلية غير مسبوقة تمثلت في بعدين أساسيين: أولهما أن التغيير الثوري تم بفضل نخبة مدنية، وثانيهما أن هذه النخبة تكونت أساساً من الشباب، وعندما نقول أساساً، فإننا نقصد أن فئات من كافة الأعمار شاركت فيها وإن بقي الشباب هم المكون الرئيسي لقاعدة قوتها. وقد بدأت هذه العملية الثورية الجديدة في تونس، ولكن تعقد إدارة التغيير في بلد كمصر جعل عملية التحول الثوري تأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً بكثير، ويكفي مثلاً أن المؤسسة العسكرية التي يُذكَر لها فضل حماية أمن مصر في لحظات الانتقال الحرجة التي أُطلِقَت فيها قوى الشر من عقالها في محاولة لوأد الثورة -يكفي أن هذه المؤسسة لم تتخل عن رئيس الجمهورية عكس الحالة التونسية. وهذه السمات الجديدة للنخبة القائمة بالتغيير تتضمن دون شك إيجابيات لا حدود لها، ويكفي أنها تعني للمرة الأولى في بلد كمصر إدارة التغيير الثوري عن طريق نخبة مدنية، وأن هذه النخبة هي دون جدال نخبة المستقبل التي حرمت كثيراً من حقها في المشاركة في صنع مستقبل وطنها حتى كادت تفقد انتماءها لهذا الوطن، ولكن هذه السمات الإيجابية لا تعني من ناحية أخرى أن ثورة الشباب بلا مشاكل، ولاشك أن المشكلة الأهم هي أن شباب الثورة دون قيادة موحدة، وأعلم أن البعض سيسارع إلى نفي هذا الحكم، ولكن حتى إذا كان شباب التحرير موحدي الإرادة على مطلب واحد ومشروع بالتأكيد فإنهم بمفهوم المخالفة يجب أن يسلموا أن الشباب الذين غادروا ميدان التحرير لعدم تمسكهم بمطلب رحيل رئيس الجمهورية أكثر تقبلاً لفكرة الحوار، وأكثر ثقة في استحالة خداع النظام لجماهيره. ومرة أخرى يجب كذلك التسليم بأنه بسبب هذه المشكلة -أي مشكلة القيادة- فإن قوى كثيرة بعضها أحزاب "كرتونية" وبعضها أفراد لا يستحقون أن يوجدوا في المشهد السياسي الراهن أصلاً -دون إنكار للقيمة الرفيعة لعدد من الأشخاص الذين بادروا بالحوار ويحاولون إدارته على نحو يصل بالوطن إلى بر الأمان- قد سارعت -أي هذه القوى- إلى محاولة القفز على الثورة. صحيح أن الشباب لا يعترفون بصفتهم التمثيلية، ولكنهم من الناحية الواقعية صاروا موجودين في مشهد الحوار الحالي. وهذه المسألة -أي مسألة وحدة القيادة- مشكلة يتعين على شباب الثورة أن يحلها جذريّاً في أسرع وقت ممكن مع الاعتراف بصعوبة هذه المهمة بكل تأكيد. بل إن المهزلة أن بعض القوى الخارجية التي لم يعرف عنها دعم التطور الديمقراطي الحقيقي لا في مصر ولا في غيرها كالولايات المتحدة، أو القوى التي لا ناقة لها ولا جمل في الثورة المصرية، قد شاركت في محاولة القفز على الثورة وسرقتها. ومع ذلك فإن ثمة مسألة مهمة يتعين على شباب الثورة أيضاً أن يعترفوا بها بغض النظر عن طهارتهم المطلقة، وهي أن الثورة المصرية الراهنة لابد وأن تكون ساحة لفعل قوى معينة تعمل من أجل مصالحها، ومع كل التقدير للمقاومة الفلسطينية في غزة فإن خروج أحد قادتها من السجن ودخوله إلى وطنه بعد الحد الأدنى من مدة السفر من السجن إلى غزة يعني أن هناك تنظيماً رفيع المستوى وراء المسألة، والأمر نفسه ينسحب على تفجير أنبوب الغاز في العريش. وما أقصده إذن أن ثمة فارقاً بين البراءة المطلقة للثورة من شبهة التأثر بمخططات خارجية وبين ضرورة أن يأخذ شباب الثورة في اعتباره وجود مخططات تعمل بدأب حاليّاً في الساحة المصرية من أجل تحقيق مصالحها. وأخيراً وليس آخراً فإن شباب الثورة يجب أن يبحث بجدية في معضلة تداعيات الثورة على الاقتصاد المصري، بمعنى أنه لا ينبغي أن يكتفي بالإصرار على مطالبه، ولكن عليه أيضاً أن ينظر في الآليات التي يمكن بها تقليص آثار الثورة على اقتصاد الوطن. وهذا الشباب العظيم إذن تستحق مصر منه أن يبلور قيادة لثورته غير المسبوقة على نحو يكفل حمايتها، وأن يهتم بالنظر في اقتصاد الوطن بالإضافة إلى اضطلاعه بمهمة التغيير التاريخية في بلد طال شوقه للتغيير.