رؤية فرنسية للاحتجاجات المصرية... و"إليو- ماري" في عين العاصفة الإعلامية! زوبعة إعلامية في فرنسا ضد وزيرة خارجيتها، وقراءة فرنسية في دلالة الاحتجاجات في مصر، وتجاوز حراك الشارع لمقولة الاستثناء الديمقراطي العربي، موضوعات ثلاثة استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية. عاصفة إليو- ماري ما زالت باريس تسترجع أصداء العاصفة الإعلامية التي أثيرت مؤخراً ضد وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل إليو- ماري، على خلفية موقفها المتردد من الأزمة التونسية، وتهم باحتمال استفادتها وزوجها من خدمة طائرة خاصة يمتلكها صهر الرئيس التونسي المخلوع بن علي، وقد استقطبت هذه المزاعم اهتمام معظم كُتاب افتتاحيات الصحف الجهوية. في افتتاحية "لودوفين ليبر" قال الكاتب "جيل ديبرناردي" إن المسافة الفاصلة بين مقر وزارة الخارجية بباريس وشواطئ جزيرة جربة السياحية التونسية يبدو أنها ليست أكثر من خطوة، ولذا سرعان ما قطعتها الوزيرة لتصل باعتبارها سائحة من الدرجة المخملية، والظاهر أنها لم تكن ترى ما يجري حولها من اضطرابات، ربما لأن شمس الجزيرة الساطعة أبهرت عينيها، وحجبت عنها الرؤية. والمفارقة أنها كانت تتحدث، بعد رحيل الرئيس المخلوع بن علي، عن تونس البطاقات البريدية لا تونس الواقعية. وكما هو متوقع فقد سارع الحزب الاشتراكي المعارض مطالباً باستقالة الوزيرة دون قيد أو شرط. ولكن المفارقة أيضاً أن الاشتراكيين لا يرون الأشياء واضحة للعيان إلا عندما يكونون في اليسار، وخارج السلطة،. أما في افتتاحية "لالزاس" فقد ذهب الكاتب "باتريك لوكفيجر" إلى أن ما شحن اليسار والإعلام الفرنسيين الآن ضد وزيرة الخارجية هو تلك الجملة الصغيرة التي تفوهت بها في عز المواجهة التونسية، حين عرضت على النظام البائد مساعدة فرنسا الأمنية في احتواء الشغب وحفظ النظام. وقد كان ذلك العرض غير مبرر، دون شك، خاصة بالنظر إلى مأساوية الحدث التونسي حينها. وزاد الأمر إثارة للقلق ما تردد بعد ذلك عن علاقة الوزيرة وزوجها -الوزير أيضاً- مع شخصيات تونسية محسوبة على النظام. وهذا ما أضفى على الزوبعة المثارة أبعاداً سياسية، إضافة إلى أبعادها الأخلاقية. وأخيراً انتقد الكاتب "ديدييه لوي" في افتتاحية "لوكورييه بيكار" أداء الوزيرة MAM -اختصار اسمها- مشيراً إلى أنه في حين كان يتوقع منها تجاوز دبلوماسية الفوضى والعواطف التي كرسها سلفها في المنصب كوشنر، ها هي تكرس دبلوماسية الصمت المطبق. وفي الأذهان ما أبدته -باسم فرنسا- من صمت مطبق تجاه المأساة التونسية، وعدم تجاوزها عتبة الإدانة اللفظية بطرف اللسان لممارسات القمع التي حدثت قبل سقوط النظام المخلوع. وليس هذا فقط، فالوزيرة التي تتلفع بوثوقيات عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى هي نفسها عرضت على بن علي تدخلاً أمنيّاً في شؤون بلاده، يقول الكاتب! وأكثر من هذا لم توفق أيضاً في ترتيب أجندتها الشخصية، فمع عدم التنكر لحقها في أخذ عطلة استجمام، إلا أنه كان في مقدورها اختيار وجهة أخرى غير الذهاب إلى مستعمرة سابقة، في حالة ثورة عارمة. احتجاجات مصر الكاتب لوران جوفرين كتب افتتاحية في صحيفة ليبراسيون -اليسارية- أيد فيها الاحتجاجات في ميدان التحرير في القاهرة مستدعيّاً في البداية مقولة للينين قال فيها إن اللحظة التي تقول فيها الشعوب إنها لم تعد تريد استمرار الحال، وترد الحكومات بأنها لم تعد تستطيع المزيد، تندلع الثورات، ويحدث الحراك الذي لا يمكن وقف مسيرته. وهذا ما حصل في مصر التي ستدخل منذ الآن، في كل الأحوال، مرحلة جديدة. ولا مكان بعد اليوم للتشكيك في أن قيم الحرية والديمقراطية ليست كونية. ولاشك أن هنالك من يقرع الآن أجراس الإنذار من إمكانية تجيير الجماعات الأصولية لما يجري، محاولة استغلاله، ولكن الوقت ليس وقت الأحكام الاستباقية ونسج السيناريوهات والتنبؤات المتشائمة، وخاصة أن حراك الشعوب المسجل خلال الأسابيع الأخيرة يستبعدها بشكل قوي. بل على العكس، إن الوقت هو للاحتفال ببطولة الشعوب، يقول الكاتب، التي فرضت خيار اجتراح الإصلاح والتغيير. والحاصل أن أنواراً مبهرة تنبعث الآن من الشرق، حيث يشرق من هنالك على العالم فجر جديد. وفي افتتاحية ثانية كتبها "موريس إلريك" في صحيفة "لومانيتيه" -الشيوعية- تجاوز فيها الإسقاطات الوطنية والإقليمية لأحداث مصر وتونس، مشيراً إلى أبعادها العالمية، مؤكداً أن ما تتمناه الدول الكبرى في العالم هو مؤدى تلك العبارة الشهيرة التي تقول "ليتغير كل شيء ليبقى الوضع على ما كان عليه"! ذلك أن ما يجري اليوم في مصر، وقبلها تونس، لا يؤثر فقط على الأحوال القائمة في العالم العربي، بل إن آثاره أوسع من ذلك بكثير، ولهذا كانت "النخب" الدولية المجتمعة في منتدى "دافوس"، ترقب بقلق شديد ما يجري في مصر متحدثة عن مخاطر ظهور عدم استقرار استراتيجي، مع ما قد يترتب على ذلك من تداعيات. والحال أن نظامهم الاقتصادي الرأسمالي العالمي هو من يجد وجهه إلى الحائط الآن، يقول الكاتب. ولذا جاءت الاستجابة سريعة من الأسواق، فقد بادرت وكالة التصنيفات المالية "موديز" إلى تخفيض تصنيف مصر، مثلما فعلت قبل ذلك بأسبوع مع تصنيف تونس. وأخيراً في افتتاحية لصحيفة لوفيغارو -اليمينية- قلل الكاتب بيير روسلين من فرص استجابة الحكومة المصرية للدعوات الأميركية بالانتقال الفوري للسلطة، مشيراً إلى أن القاهرة انتظرت حتى تغامر واشنطن بالمطالبة الصريحة بنقل السلطة لكي تبدأ هي هجومها السياسي المضاد. وعلى رغم يد أوباما المبسوطة للعالم الإسلامي التي اختار لخطابها أن ينطلق من رافعة القاهرة بالذات، إلا أن الحقيقة المرة هي أن نسبة شعبية الولايات المتحدة على ضفتي نهر النيل تعد واحدة من أخفض النسب على مستوى العالم. وقد أظهر استطلاع رأي أجراه معهد "بيو" خلال سنة 2010 أن 17 في المئة فقط من المصريين يحتفظون في أذهانهم بصورة إيجابية عن أميركا. نحو نهاية الاستثناء العربي؟ تحت هذا العنوان استعرض الكاتب حسني عبيدي في صحيفة لوموند دلالات حراك الشارع العربي الراهن، معدداً ما اعتبره أوجه إخفاق وأسباب احتقان متراكم، هي ما عبر عن نفسه أخيراً من خلال الأحداث الأخيرة، وإن كانت لكل من مصر وتونس ظروفه الخاصة. ففي مصر ارتفعت الاحتجاجات المطلبية دون وجود أطر نقابية قوية تلعب دور الوسيط بين الحكومة والشرائح الشعبية الأكثر تضرراً من ضغوط الوضع الاقتصادي والظرف الاجتماعي، في حين أن تونس تميزت بوجود إطار نقابي قوي هو "الاتحاد التونسي للشغل" الذي كان رأس الحربة في احتجاجات ديسمبر الماضي التي انتهت بسقوط نظام بن علي. وهنالك أيضاً تطور دال في البنية الاجتماعية للعديد من المجتمعات العربية كان لابد أن يعبر عن نفسه في الشارع ألا وهو صعود الطبقة الوسطى الحضرية، المرتبطة بآليات التواصل والعولمة، وهي التي أضفت طابعاً سياسيّاً على الاحتجاجات الاجتماعية المطلبية. وفي الحالة التونسية تحديداً استنزفت مدن الداخل التونسي أيضاً قوى النظام قبل أن تنتقل إلى تونس العاصمة، حيث وقعت المواجهة النهائية مع النظام في معاقله المركزية. هذا في حين أن الطبقة الوسطى في مصر تبدو أكثر هشاشة، بسبب المشاكل الاقتصادية، وحيث نسبة القراءة والكتابة لا تتجاوز 60 في المئة مقابل 90 في المئة في تونس. وفي المجمل فإن كل الأنظار تتجه الآن إلى تونس لمعرفة ما إن كانت مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية هناك ستقدم مثالاً ملهماً للمتطلعين إلى الإصلاح في العالم العربي. ومع أن أحداً لا يستطيع التنبؤ بدقة بالمستقبل، في هذه اللحظة من الزمن، إلا أن الحدث التونسي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك المقولة الرائجة عن الاستثناء العربي من الديمقراطية والإصلاح، قد تجاوزها الزمن. إعداد: حسن ولد المختار