كل المجتمعات، بما فيها مجتمعات الدول المتقدمة، تشكو من ظاهرة الفقر والحرمان، وإنْ بدرجات وأشكال مختلفة. وكل الأديان السماوية وغير السماوية حضت على التكافل الاجتماعي، فقالت بوجوب أن يكون للفقراء نصيب في ثروات الأغنياء. وكل الحقب شهدت ظهور شخصيات تستقطع نسباً من ثرواتها من أجل الأعمال والمشاريع الخيرية لمصلحة المحتاجين والمعوزين. هذه المقدمة كان لا بد منها للتعليق على خبر غير مسبوق، في شكله وطبيعته، هو ما جاء في الأخبار الواردة من الصين مؤخراً حول قرار "تايكون" المال الصيني "تشين جوانجبياو" (43عاماً) بالسفر إلى تايوان من أجل توزيع مساعدات مالية نقدية على فقرائها ومحتاجيها بقيمة 500 مليون دولار تايواني، أو ما يعادل 16 مليون دولار أميركي. ولأن ما بين البر الصيني وجزيرة تايوان ما صنع الحداد منذ أكثر من ستة عقود، كان لا بد أن يثير الإعلان المذكور ردود أفعال متباينة في بكين وتايبيه، ما بين الترحيب والانتقاد، علاوة على مطالبات من بعض التايوانيين بمنع الملياردير الصيني من دخول البلاد، وهو مالم تستجب لها السلطات التايوانية في نهاية المطاف. و"تشين جوانجبياو"، الذي يترأس شركة "جيانجسو" للطاقة المتجددة، والذي جمع ثروته الطائلة من تدوير النفايات، يعتبر من أشهر فاعلي الخير في الصين وأكثرهم كرماً تجاه فقراء بلاده. حيث دأب خلال السنوات العشر الماضية على تخصيص 20 بالمائة من إيرادات شركته كل عام لأعمال الخير ودعم المحتاجين، مؤكداً بذلك أن لكل قاعدة شواذ، والقاعدة التي نتكلم عنها هنا، هو ما عرف عن الصينيين بصفة عامة من بخل وتقتير. ومما رصد عن الرجل قوله مراراً أنه يتولى بنفسه توزيع الأموال على الفقراء ليس من أجل الاستعراض والتباهي، أو الشهرة الإعلامية، وليس لانعدام ثقته في المؤسسات والمنظمات العاملة في ميدان الأعمال الخيرية، وإنما لغرض إيصال التبرعات إلى مستحقيها مباشرة وبشكل سريع وبعيد عن البيروقراطية. قلنا إن قرار الملياردير الصيني أثار الترحيب من البعض، وأثار الانتقاد من البعض الآخر لأسباب مختلفة. فبعض التايوانيين، من أمثال عمدة مقاطعة "نيو تايوان سيتي"، اعتبروا العمل إهانة ومساً بكرامة شعبهم، خصوصاً أن التبرع خــُطط له ليكون نقدياً - وليس عينياً - من خلال مغلفات حمراء تسلم يداً بيد. والبعض الآخر من التايوانيين انتقد العمل من زاوية صعوبة إعداد قوائم دقيقة بأسماء الفقراء التايوانيين ممن يستحقون فعلاً تبرعات فاعل الخير الصيني (333 دولاراً أميركياً لكل فقير). وكان هناك فريق ثالث من التايوانيين ممن حذر من العملية بكاملها، قائلًا إن وراءها أهدافاً سياسية تتمثل في تشجيع الناس على تأييد فكرة توحيد تايوان مع البر الصيني وترغيبهم بها. أما الفريق المنتقد الرابع من التايوانيين فقد حذر من أن العملية تنطوي على إعطاء صورة مزرية لتايوان في الخارج، وتصويرها على أنها أقل تقدماً لجهة مستويات المعيشة من الصين، لكن الحقيقة هي أن هناك بوناً شاسعاً بين الدخول ومستويات المعيشة في البلدين لمصلحة تايوان، وإنْ كان من الظلم مقارنة بلد شاسع يفوق سكانه البليون وثلث البليون نسمة كالصين بجزيرة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 20 مليون نسمة مثل تايوان. مقابل هذه الانتقادات، برز فريق تايواني بقيادة "فو كون تشي" حاكم إقليم "هواليان" يرحب بخطة فاعل الخير الصيني، بحجة أنها سوف تحرج رجال الأعمال التايوانيين وسوف تدفعهم إلى إيلاء مسألة دعم فقراء بلدهم اهتماماً أكبر، خصوصاً أن تايوان، تشهد تزايد الفجوة في المداخيل ما بين العمالة الماهرة المتمرسة في مجال التكنولوجيا والثورة المعرفية والعمالة التقليدية العادية، الأمر الذي أدى إلى عجز النظام المتقدم للرعاية الاجتماعية في تايوان عن الوفاء بعمله على أكمل وجه. أما في البر الصيني، فقد انحصرت الانتقادات في ضرورة أن يستفيد الفقراء الصينيون وحدهم من مشاريع "جوانجبياو" الخيرية، على اعتبار أن هناك مئات الملايين من الصينيين ممن لم يستفيدوا من الطفرة الاقتصادية في بلادهم خلال السنوات القليلة الماضية، وبالتالي ظلت دخولهم اليومية تقف عند مستوى أقل من دولار أميركي واحد، وظل نصيب الفرد الصيني من ناتج بلاده القومي هو 4300 دولار أميركي، فيما تفيد التقارير الاقتصادية الواردة من تايوان أن المعدل الشهري لدخل العامل التايواني هو 700 دولار أميركي، والمعدل العام للدخول الفردية الشهرية هو 1998 دولاراً أميركياً، ونصيب الفرد من الناتج القومي هو 18500 دولار أميركي (على الرغم من فقدان جزيرة تايوان لدورها التصنيعي والتصديري السابق لمصلحة الصين بدليل أن قطاع الخدمات احتل مكان قطاع الصناعة كقطاع محوري في الاقتصاد التايواني، بعدما انتقل الكثير من المصانع إلى حيث توجد الأيدي العاملة والمواد الخام الرخيصة كالصين ودول جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام). وقد رد فاعل الخير الصيني على مجمل ردود الأفعال، هذه بالقول إنه لايسعى من خلال خطته الخيرية إلا لبث الفرح والسعادة في قلوب فقراء تايوان مع قرب الاحتفال بعيد رأس السنة الصينية، مضيفاً أن أحد الأشياء الأخرى التي دفعته للمسارعة بهذا العمل، هو رد الجميل لتايوان والتايوانيين بسبب موقفهم النبيل في مد يد المساعدة الفورية إلى الشعب الصيني أثناء كوارث الزلازل والفيضانات والانهيارات الأرضية التي عصفت ببعض الأقاليم الصينية. وهكذا، فبينما تتناقل الأخبار كل يوم مبادرات خيرية ضخمة في مبالغها، وعميقة في دلالاتها، ونبيلة في أهدافها، تقوم بها شخصيات أجنبية ثرية ممن أنعم الله عليهم بالثروات الطائلة، يواصل بعض الأغنياء العرب تكديس الثروات البليونية، دون اهتمام بالإسهام في رفع مظاهر الفقر والحرمان والعوز عن المحتاجين بالشكل الذي دعت وحضت عليه الأديان والعقائد والمذاهب.