عادة ما يتم الخلط في النظام السياسي العربي بين أمن الوطن وأمن النظام. أمن الوطن الداخلي ضد العدو الخارجي أو امتداداته في الداخل مثل شبكات التجسس الإسرائيلية الأخيرة في مصر وسوريا ولبنان، وربما حتى في أجزاء أخرى من الوطن العربي. في حين أن الاستخبارات تعمل لحماية أمن الوطن في الخارج، ونشاطاتها في الخارج، وربما امتداداتها في الداخل أيضاً. كما أن الاستخبارات العسكرية تعمل على تأمين ولاء الجيش للوطن وقيادته، ضد الولاءات المزدوجة للضباط والجنود بين الولاء الوطني والولاءات الدينية والأيديولوجية. وقد تتداخل كل هذه الأجهزة لصالح الأمن الوطني. وتسمى قوات الشرطة أحياناً قوات الأمن الوطني توحيداً بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي. ويعمل قطاع الأمن الداخلي لصالح الاستقرار والحفاظ على النظام ضد التنظيمات والمنظمات السرية المناوئة له، التي لا تعبر عن نفسها علناً وبوسائل سلمية مشروعة. فتعمل تحت الأرض مؤقتاً حتى تأتي اللحظة المواتية كي تنفجر فوق الأرض. ولذلك تسمى جماعات العنف أو حسب التسمية الغربية جماعات الإرهاب. انفجار هنا وهناك وتصبح خبراً رئيسيّاً في الصحف الرسمية، وبالأحمر، والبنط العريض على صفحاتها الأولى. كما يعمل قطاع الأمن الداخلي ضد الجريمة المنظمة وشبكات المخدرات وغسل الأموال. وقد تقبض على النتائج دون بحث المقدمات التي دفعت إليها، فراغ الشباب وبطالتهم وفقرهم، وخروج الوطن من قلوبهم، والبحث عن بديل يملؤها. وتبلغ ذروة النشاط الأمني في التوجه للكشف عن التخطيط للانقلابات ضد النظام وما أسهل التهم لأي تنظيم بذلك. فهي قضية أمن دولة عليا. ومع ذلك لم يفلح الأمن الداخلي ولا الاستخبارات المدنية أو العسكرية في اكتشاف تنظيم "الضباط الأحرار" في أواخر الأربعينيات الذي قاد ثورة يوليو 1952. فقد كانت الثورة مشروعة ضد الإنجليز والنظام والإقطاع والرأسمالية. ومهما بلغت أجهزة الأمن من قوة ويقظة إلا أنها تقف عاجزة عن مشروعية الثورة. والاسم نفسه ذو دلالة "نيابة أمن الدولة العليا". نيابة تحقيق في تهمة أو جريمة قد تكون مجرد اتهام أو شبهة طبقاً للمثل الشعبي "اللي على رأسه بطحة يحس عليها"، قلب النظام. وهي "عليا" أي أن النظام السياسي هو الهدف وليس مجرد سرقة أموال أو رشوة أو فساد. وهي أعلى من النيابة العامة التي تحقق في حوادث المرور وجرائم القتل العادية. وهي أعلى من الشرطة وأجهزة الأمن العادية التي تتعامل مع الحوادث في الحياة اليومية، وما أكثرها بين المواطنين، وليس بين المواطن والنظام. لا رقيب على أفعالها في بعض الحالات العربية. لا تراجعها منظمات حقوق إنسان، ولا منظمات المجتمع المدني. وهي دائماً على صواب فيما تقول وفيما تفعل. لا يتطرق إليها الفساد أو تنحرف فتعمل لحسابها الخاص أو لحساب قوى أخرى وليس لصالح أمن الوطن. وقد تتضخم أجهزتها وتصبح دولة داخل الدولة. وقد تصل إلى حد السيطرة على الدول ذاتها فتصبح الدولة وكأنها دولة أمنية أو بوليسية. ويزداد عدد أفرادها بحيث يصبح عدد قوات الأمن المركزي للحفاظ على الأمن في الداخل أكثر من عدد أفراد الجيش الذي يحافظ على وحدة الترابط الوطني وأمن البلاد من عدوان خارجي. وأحياناً يتم تجنب الصراع بين أمن الوطن في الداخل والعدو في الخارج بتأمين خطره لصالح استقرار الأمن في الداخل. والاسم "نيابة أمن الدولة العليا" يثير الرعب في قلوب بعض الناس. ويعطيهم الإحساس بالخوف والرهبة. فأمن الوطن أعلى وأهم من أمن الأفراد. ومن يمسه أو ينال منه يقترب من الخيانة الوطنية. لا يمكن الدفاع عن تهمها لأنها دائماً على حق. مبانيها محكمة الإغلاق. لا يجوز الاقتراب من فتحاتها أو التصوير أو انتظار السيارات بجوارها أو السير جماعات على أسوارها. لا تحوطها الخضرة أو المياه أو الورود. حوائطها ملساء. وأسوارها كلحاء. لا يدخل منها ولا يخرج منها أحد. أمامها وحولها حراسة عسكرية ومدنية. وفوق أسوارها كاميرات إلكترونية تراقب وترصد كل من يقترب منها. وهي أول المستهدفات في لحظات الثورة والغضب الشعبي مع أقسام الشرطة والمباني الرسمية للحكومة ورموز التسلط ومعاناة المواطنين. والسؤال هو: هل الدولة هي النظام السياسي؟ هل أمن الوطن هو أمن الفئة الحاكمة، حزباً أو طبقة أو "شلة" كما يسميها علماء السياسة؟ هل أمن الوطن هو أمن النظام السياسي؟ هل نقد تسلطه هو نقد للدولة؟ ولماذا يوحد الرئيس الذي يشخص النظام السياسي بينه وبين الدولة فيما هو معروف بالعبارة الشهيرة "أنا الدولة"؟ إن الدولة كيان موضوعي، هيكل تاريخي، بناء اجتماعي، في حين أن النظام السياسي اختيار عارض. يتغير بتغير النظم. وهو ما تتسم به الثقافة الأبوية، وما يميز المجتمع البطريركي والفكر الديني التقليدي الذي يقلص النظام السياسي في الخلافة. وفي مثل هذا النظام، قد ينظر إلى كل حركة وكل همسة على أنها تمس أمن الوطن. كل قول وكل فعل وكل نشاط يهدد أمن الوطن. كل مقال وكل محاضرة وكل كتاب يستهدف أمن الوطن. كل مظاهرة تطالب برفع الأجور وخفض الأسعار والتعبير عن ضنك العيش ترمي إلى النيل من أمن الوطن. كل رواية أو قصة أو مسرحية أو عمل أدبي نقد لأمن الدولة. ومع ذلك، هذه الضخامة في تكوين وبناء الأمن الداخلي هشة، معرضة للانهيار من أي حركة لمواطن أو فكرة لمثقف أو رأي لمفكر. يصبح السؤال "أيها الأمن القومي، كم من الجرائم تـُرتكب باسمك؟". تعطى الأولوية لأمن النظام على أمن الوطن في نظام سياسي تغيب فيه الحريات السياسية، والتعبير الحر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية. تنقصه التعددية السياسية، والرأي والرأي الآخر. تضعف فيه أحزاب المعارضة، ويسيطر فيه الحزب الحاكم على كل شيء. فعندما تغيب الديمقراطية كأداة للحكم وكنظام سياسي يكون البديل هو الأمن والسيطرة على الحكم بأجهزة الأمن، والتوحيد بين أمن الوطن وأمن النظام، بين أمن الوطن في موقعه الجغرافي والتاريخي وأمن النظام السياسي العابر الذي يعبر عن طبقة أو فئة أو فرد. ولا حل إلا بتغيير المعادلة بين القمة والقاعدة. فأمن القمة من أمن القاعدة وليس بالسيطرة عليها. وأمن القاعدة هو الذي يعطي الأمان للقمة بالتعبير عنها لأنها تنبع منها. الأمن الموضوعي للدولة من الجغرافيا السياسية الثابتة، والأمن الذاتي للنظام من المصلحة الفئوية المتغيرة. وتحرك القاعدة إذا سيطرت عليها القمة مفهوم الأسباب، بل هو حركة طبيعية قد تتطلب تغيير القمة أي النظام السياسي طبقاً لتغير المصالح. تغير القاعدة الشعبية يقتضي تغير القمة السياسية. وثبات القمة قد يحرك القاعدة ضدها. فأمن الوطن وأمن النظام مرهونان بحركة المجتمع ومسار التاريخ.