ثلاثة موضوعات رئيسية تحظى بحضور بارز في سياسات روسيا البوتينية؛ هي الأمن العسكري، وأمن الطاقة، واستعادة العظمة الروسية. وكتاب المفكر الاستراتيجي الروسي بافل باييف، "القوة العسكرية وسياسة الطاقة... بوتين والبحث عن العظمة الروسية"، يستهدف تشخيص نواتج التفاعل الدينامي بين هذه الموضوعات الثلاثة. ويستهل المؤلف كتابه الذي نعرضه هنا بتقويم يعرض ثلاث خلفيات تتعلق بوضعية القوات المسلحة، وتطوير قطاع الطاقة، وجوهر نيات استعادة "عظمة" روسيا، خلال سنوات بوتين في سدة الرئاسة، أي الركائز القوية وشديدة التعقيد التي يستند إليها البيت الروسي اليوم. في العقيدة الأمنية الروسية، تُعتبَر النظرية القائلة بأن القوة العسكرية مكون بالغ الأهمية من مكونات قوة الدولة، وشرط مسبق لابد منه لكسب النفوذ داخل منظومة العلاقات الدولية، وأداة أساسية لمواجهة الضغوط الخارجية المعادية، حقيقة بديهية تكونت عبر مئات السنين من التاريخ الروسي. وحين اختار يلتسين، في خريف 1999، بوتين لخلافته في رئاسة البلاد، بدت مهمة تحديث وإعادة تنظيم المؤسسة العسكرية التي نخرها الفساد والتدهور مهمة كبيرة أمام زعيم حديث عهد بالحكم. وكما يقول المؤلف فقد اعتمدت المقاربة الأساسية لبوتين على تعزيز تنظيم المؤسسة العسكرية، وخلق توازن بين المخاطر والفرص. وفي حين كانت ولايته الثانية تقترب من نهايتها، وجد أن لديه أسباباً وجيهة تدعوه للاعتقاد بسلامة اختياره في هذا الخصوص، لاسيما أنه ضمنت له الهيمنة الفاعلة على الآلة الحربية. وهنا يتناول الكتاب، وبالتحليل الموسع، بعض القضايا التي اقترنت بهذه السياسة، ومنها تمويل قطاع الصناعة العسكرية، وخفض حجم القوات النووية، وتشكيل قوات تقليدية قابلة للانتشار... فضلاً عن قضايا أخرى مثل: هيكل القيادة، ونظام الخدمة الإلزامية، والنهج المتبع في تحديث القوات المسلحة. وفي الشق المتعلق بركيزة الطاقة، يقول المؤلف إنه لم يحدث إلا في عهد بوتين أن تحولت روسيا إلى دولة نفطية حقيقية، ليس من حيث نصيب قطاع الطاقة في ناتجها المحلي الإجمالي، أو في تركيبة صادراتها فحسب، ولكن أيضاً في سياق رؤيتها الذاتية لنفسها. ورغم أن روسيا عُدّت على مدى عقود طويلة من كبريات الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز الطبيعي، فقد دأبت على تصوير نفسها كقوة صناعية متقدمة. ولم تتغير هذه الصورة بشكل جلي إلا في منتصف العقد الأول من القرن الجديد عندما شرعت روسيا بالسير على الطريق المؤدية إلى منظمة "أوبك". وإذا كان هذا التحول وليد عوامل مثل كساد الصناعات التقليدية، وتدهور المستويات العلمية الأساسية، وتأخر امتلاك تقنيات عصر المعلومات وبطئه، فإن العامل الرئيسي منها هو الارتفاع المذهل في أسعار النفط. لكن المؤلف ينتقد السياسة الحالية لموسكو في مجال الطاقة، قائلاً إنها لا تستند إلى ضوابط مترابطة منطقياً، بل جرى تسويغها بخطاب يمزج بين "تعويذات" اقتصاد السوق وطلاسمه، والمبادئ الأساسية لاقتصاد شبه سوفييتي، مع مصطلحات عامة مبتذلة من قبيل "اقتصاد الظل". ومن هنا يتوقع المؤلف أن يعجز المزيج غير المتكافئ الذي يجمع بين آليات تحكم مفرطة في الصرامة في بعض المجالات الاقتصادية، وبين قوى السوق الخفية التي تتعذر السيطرة عليها في مجالات أخرى، عن التعامل مع أي أزمة محتملة بصورة منطقية وفعالة وفي الوقت المناسب. أما فيما يتعلق بالقضية الثالثة، فمن الواضح وفقاً للمؤلف، أن سياستي روسيا في مجالي الأمن والبترول هما أبرز تجل لفلسفة "العظمة" الجديدة. وفي هذا السياق تبرز ثلاثة مصطلحات في الخطاب الرسمي الروسي: القوة العظمى، والإمبراطورية، والحضارة. فالتأهل لمركز "القوة العظمى"، وباستغلال مكافحة الإرهاب، كان أحد أبرز الشعارات التي رفعها بوتين خلال حملته الانتخابية لعام 2000، حيث جعل من الحرب الشيشانية الثانية وسيلة اختراق في وعي الشعب الروسي لإقناعه بإمكانية عودة البلاد إلى سابق مجدها. أما إعادة بناء "الإمبراطورية" فكان سبيله تزعم الثورات المضادة في عدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة الحليفة لواشنطن. فيما شكلت دعوى حماية "حضارة" روسيا وسيلة تمويه للتراجع عن الديمقراطية نحو ما يشبه القيصرية البوتينية. وعلى هذا المنوال يرى الكتاب أن المطالبة بموقع "القوة العظمى" تجد ما يسندها في الترسانة النووية، في حين أن مساعي إعادة بناء "الإمبراطورية" تشكل تعويضاً عن القدرات المستخدمة حالياً لنشر القوة واستعراضها. محمد ولد المنى الكتاب: القوة العسكرية وسياسة الطاقة... بوتين والبحث عن "العظمة" الروسية المؤلف: بافل باييف الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2010