الاحتجاجات التي انتشرت بصورة مفاجئة في العديد من البلدان العربية تركت حالة من الاستغراب والخوف من استفحالها. وما حدث في مصر كان هو الأكثر فزعاً وخوفاً. سواء لوزن مصر السياسي والاقتصادي إقليمياً أو لمكانتها لدى الشعوب العربية. الكل كان قلقاً وتابع التطورات من على شاشات التلفزيون ومن الإنترنت وبالهاتف. الناس تريد أن تطمئن على ما يحصل على أرض الواقع وفي الشوارع الجانبية. العالم السياسي تفاعل مع ما حدث في مصر وتابع كل تفاصيل الشارع المصري. فالكل معني باستقرار دولة بحجم مصر وليس المصريون فقط. اللغة المتداولة على خلفية ما يحدث تحوم حول أهمية الانتباه لما يطلبه الشارع السياسي العربي. وأن القرارات التي سوف يتم اتخاذها من أجل إعادة الاستقرار والتهدئة ينبغي ألا تتأخر أكثر. لقد كانت فيما سبق مطالب اعتيادية، لكنها اليوم أصبحت إجبارية وعلى الحكومات الانتباه لها. والذي يحدث في الشارع العربي حالياً لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكم سنين لقرارات مؤجلة. كانت هناك محاولات للتعبير عن المطالب، لكنها لم تنجح؛ إما لتجاهل المسؤولين رغبات المواطنين، أو لافتقار الشارع العربي إلى شجاعة التحرك وعدم الإيمان بقدرة التحرك على إحداث التغيير، لكن النموذج التونسي غيّر القناعات السابقة. والغريب أنه رغم أن ظاهرة الاحتجاجات التي شملت تونس والجزائر والأردن واليمن حتى الآن، دفعت عدداً من المراقبين إلى التفكير فيما يمكن أن تمثله من خلل في الأمن الاجتماعي في الدول العربية، فإنها لم تقنع المسؤولين العرب بالنظر إليها كتطورات جاءت نتيجة انتحار شاب عاطل عن العمل وتبعه عاطلون آخرون وليس نتيجة لغياب الأمل والأفق المستقبلي للشباب العربي الذي خرج من دولته (افتراضياً) إلى العالم الخارجي وعرف كيف يعيش من همْ في سنه في العالم. الأنسب هو التفكير في الأسباب التي دفعت الشاب التونسي وغيره من الشباب العربي إلى الإقدام على الانتحار دون الوقوف فقط على البعد الديني، برغم أهميته. النزول إلى الشارع ومواجهة الأجهزة الأمنية هو انتحار أيضاً؛ الأمر لا يقتصر على إحراق النفس فقط. واضح أن المشترك في مسيرات الغضب العربية هو الرغبة في فتح قنوات التواصل بين المسؤولين والمواطنين وإسماع الشارع ما يحتاجه وضرورة التفاعل معه. انسداد الأفق في التواصل مع المسؤولين تحول إلى أرضية خصبة لامتلاك الشجاعة على الانتحار المعنوي، الذي يقود إلى الانتحار الجسدي. واللجوء إلى الشارع كأفضل مكان للتعبير هو دليل عجز المؤسسات الرسمية، أو المجالس التشريعية والإعلام في توصيل الحقيقة. هناك نقص في تفهم احتياجات المواطن العربي والتعامل معها بجدية، وما يمكن أن يؤدي إليه تجاهل مطالبه أو الاستهزاء بها. ويكون الأمر خطيراً عندما يشعر المواطن أن صوته ومطالبه لا تصل إلى المسؤول، بل يزداد الخطر إذا اقتنع هذا المواطن بأن مطالبه حتى لو وصلت فإنه لا جدوى منها، وهذا سر الإصرار على تغيير أعلى سلطة. المواطن العربي أيقن أن سياسة الباب المفتوح مع السلطة ليست إلا "مجازاً"، إذ الباب في الواقع مغلق، فلجأ إلى الشارع. هناك إساءة تقدير لتأثير التكنولوجيا؛ العالم الحقيقي للجيل الجديد. وما نراه الآن هو نتيجة طبيعية لتجاهل احتياجات الناس، وتركهم يواجهون مصائرهم دون الالتفات إليهم. وهذا التجاهل إما أنه نتيجة ترحيل حل المشكلات في وقت الاختيار، وإما نتيجة الاستخفاف بها إلى أن جاء الحل تحت ضغط الاحتجاجات والإرغام، لكن بخسائر!