راهن الكثير من المحللين على أن الثورة التونسية ستكون للعالم العربي بمثابة انهيار جدار برلين في أوروبا الشرقية، فتمتد آثارها إلى العديد من الساحات العربية الأخرى. قد لا يكون هذا التوقع دقيقاً، فنقاط الاختلاف والتمايز جلية بين البلدان العربية، وخصوصية الحالة التونسية معروفة. بيد أن الذي لا شك فيه أن ما نشهده حالياً هو انحسار نموذج كامل للحكم السياسي تشكلت معالمه منذ ثمانينيات القرن المنصرم، ويمكن أن نطلق عليه "التسلطية التنافسية" (العبارة لعالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ). نشأ هذا النموذج بعد انهيار تجارب الحكم التي ورثت حركات التحرر الوطنية. وقد اتسمت تلك التجارب (أبرزها الناصرية في مصر والبومدينية في الجزائر والبورقيبية في تونس) بالنزوع الشعبوي الثوري، والزعامة الكارزمية والأحادية الحزبية التي اعتبرت الخيار التنظيمي الملائم لطبيعة المجتمع ومقتضيات بناء وتحديث الدولة. تشكل نموذج التسلطي التنافسي في سياق له سمتان بارزتان: -الأزمات الاجتماعية العاتية التي عرفتها العديد من البلدان العربية منذ منتصف الثمانينيات بسبب فشل السياسات الاقتصادية المتمحورة حول هيمنة الدولة على القطاع الإنتاجي وعجزها المتزايد عن تأمين مهمتها الرعوية الداخلة في مقومات "شرعيتها" المعلنة. ولقد أصبحت تلك البلدان مضطرة إلى إصلاح أوضاعها التنموية المختلة للخضوع لضغوط المؤسسات المالية الدولية بما تعنيه من خصخصة وتقليص للقطاع العمومي وتملص الدولة من مهماتها الرعوية الادماجية. -تزايد الضغوط الدولية للإصلاح الديمقراطي بسبب نهاية الحرب الباردة وانحسار المنظومة الاشتراكية التي كانت توفر غطاء إيديولوجياً وسياسياً للنزعات الثورية المحلية. وإذا كانت المنطقتان اللاتينية الأميركية والأفريقية المشابهتان للوضع العربي قد عرفتا في تلك الفترة تحولات نوعية في المشهد السياسي، انعكس في بعض الساحات في تجارب ديمقراطية ناجحة، فإن نموذج التسلطية التنافسية الذي ساد في العديد من الدول العربية أبدع صيغة جديدة من النظام السياسي، تتميز بالتأقلم مع المدونة النظرية والمعيارية للديمقراطية التعددية، واستخدام قوالبها الإجرائية للتحكم في مراكز السلطة الفعلية، ومنع أي منافذ للتناوب السلمي على السلطة. يعتمد النموذج التسلطي التنافسي بنية دستورية وقانونية ضامنة للحريات العامة ومقننة لقواعد السباق الانتخابي، في الوقت الذي يسمح بتعددية الأحزاب وينظم الاقتراعات الدورية، وربما حافظ للصحافة على هامش حرية متسع. بيد أن هذا النموذج هو ما أبعد ما يكون عن الممارسة الديمقراطية التعددية والحرة، لغياب المحددين الرئيسيين في هذه الممارسة وهما: توازن السلطات الضامن موضوعياً للحريات العامة والمانع لتجاوزات السلطة التنفيذية، وتوفر الآفاق العملية للتداول السلمي على الحكم. فالمحدد الأول غائب نتيجة لعاملين مترابطين عضوياً هما: الازدواجية المؤسسية غير المعلنة بين مركز القرار الفعلي الذي تتحكم فيه المؤسسة العسكرية الممنوعة دستورياً من ممارسة السياسة، ووضع مدونة دستورية وقانونية تكرس نمطا من "الرئاسة الإمبراطورية" عبر عملية انتقاء واسعة في المذاهب والتجارب الدستورية العالمية. فالمؤسسة العسكرية التي كثيراً ما يقال إنها الجسم الوحيد المنظم في المجتمعات العربية الهشة، تستمر في التحكم في مراكز التأثير الحساسة، في الوقت الذي تختزل الممارسة الديمقراطية في جوانبها المؤسسية والإجرائية أي الضوابط الشكلية للتنظيم السياسي وفي الآليات الانتخابية. تعتمد التسلطية التنافسية النموذج الرئاسي للحكم من دون التوازنات المؤسسية الكابحة لإطلاقيته ومركزيته.فرئيس الجمهورية في هذا النموذج هو بحكم الدستور رمز الدولة وقائد الجيش ورئيس القضاء ويحق له حل البرلمان ويعين وحده في الوظائف العامة. ومن الواضح أن هذه المدونة القانونية مستمدة من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الذي صاغه الجنرال ديجول عام 1958 على قامته المديدة لإخراج بلاده من فترات الاضطراب السياسي الطويلة التي عرفتها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. وفضلا عن كون هذا الدستور الشاذ في المجتمعات الديمقراطية الغربية قد خضع لمراجعات عديدة في السنوات الأخيرة، فإن السلطات الموازية القائمة والنشطة في الساحة الفرنسية تضمن حماية التعددية وتؤمن الحريات العامة، في الوقت الذي توفر المدونة الدستورية نفسها في الأحكام التسلطية التنافسية الحماية للاستبداد والأحادية بالحيلولة دون بروز وتشكل السلطات الموازية الضرورية لسير الديمقراطية. في هذه الحالة يصبح التنوع الحزبي الظاهر مشهداً تجميلياً للأحادية القائمة، لا يعكس موازين التعددية الحقيقية في المجتمع، في حين يتحول المشهد الانتخابي من منطق حفظ السلم الأهلي إلى منطق الصراع الجذري حول الشرعية وطبيعة الخيار المجتمعي، مما يفتح الباب على مصراعيه للعنف والانتفاضات التلقائية والفوضى العدمية. الواضح من المؤشرات الأخيرة أن النموذج التسلطي التنافسي دخل طور الانحسار. ويمكن أن نفسر أسباب إخفاقه في ثلاثة عوامل أساسية هي: -الأزمات الاجتماعية الخانقة التي لا يمكن تفسيرها بالعوامل الاقتصادية الصرفة، بل هي من الآثار المترتبة عن طبيعة النظام السياسي نفسه الذي يشكل الفساد أحد مقوماته الثابتة، باعتبار علاقات الزبونية التي تندرج في منطق شراء وتثبيت الولاء وتسييس الإدارة من حيث هي المنفذ الأساسي للمنافع المادية والرمزية للدولة. -تضاؤل قدرة المؤسسة الحاكمة على بناء كتلة الهيمنة الواسعة الضامنة لمعادلة الاستقرار السياسي والاجتماعي، نتيجة لعوامل عديدة من بينها:كسر احتكار الدولة لوسائل وشبكات الاتصال العمومي الحاسمة في صياغة المجال العمومي، تآكل الوسائط السياسية التنظيمية التقليدية (الأحزاب والتشكيلات المنظمة)، وبروز حركات احتجاجية تلقائية خارج إطار التحكم والرقابة (الجمهور من حيث هو فرديات متنوعة بلغة الفيلسوف الإيطالي توني نجري)، دور الجيل الثاني من المهاجرين المتعلم والمندمج في المجتمعات الغربية بما له من قوة ضغط وتأثير في منافذ القرار الدولية. -التطور الداخلي للمؤسسة العسكرية التي تغيرت تركيبتها المجتمعية: ففي حين كان يهيمن عليها الضباط المنحدرون من الأوساط الريفية والبدوية من متوسطي الثقافة ومحدودي الاتصال بالعالم الخارجي، أصبحت قياداتها في يد الضباط المدنيين من ذوي الثقافة الحديثة والمنفتحين على العالم الجديد.