فيما ينشغل العالم بالتطورات السياسية في الشرق الأوسط، وبشبح الأزمة المخيم على الاقتصادات الغربية الكبرى، أجرت البرتغال في هدوء انتخاباتها الرئاسية يوم الـ من الشهر الجاري، وقد اقتصرت على شوط واحد، إذ استطاع الرئيس المنتهية ولايته، أنيبال كافاكو سيلفا، حسمها لصالحه بنيله 52.9 في المئة من الأصوات، بفارق كبير مع منافسه الرئيسي الشاعر اليساري مانويل اليغري، والذي حصل على 19.7 في المئة فقط. ورغم انحسار الأضواء نسبياً عن البرتغال، في ظل الانشغالات الإعلامية المستجدة مؤخراً، فإن هذا البلد الواقع في أقصى جنوب غرب أوروبا بشبه الجزيرة الإيبيرية، كان قد أصبح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إمبراطورية عالمية كبرى تشمل ممتلكاتها أراضي في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية. وبعد الإطاحة بنظامه الملكي عام 1910، برزت جمهورية ديمقراطية غير مستقرة استبدلت بدكتاتورية "استادو نوفو". ثم عقب الحرب البرتغالية الاستعمارية في إفريقيا، وثورة القرنفل، استعادت البلاد الديمقراطية وتنازلت عن مقاطعات ما وراء البحار المتبقية. ذلك التاريخ الإمبراطوري هو مما يلازم ذهن صانع القرار والناخب العادي في البرتغال، لاسيما في ظروف الأزمات. لذلك فقد ركز كافاكو سيلفا، وهو الاقتصادي المحافظ، خلال حملته الانتخابية الأخيرة، على تجربته كخبير وكأستاذ جامعي ورئيس وزراء سابق، داعياً الناخبين إلى "التصويت بشكل مسؤول" في مواجهة المخاوف الناتجة عن الأزمة المالية الحالية. وقد ولد آنيبال كافاكو سيلفا في مدينة "فارو" بالجنوب البرتغالي عام 1939. وهناك تلقى دراسته قبل أن يلتحق بالمعهد العالي للعلوم الاقتصادية والمالية في جامعة لشبونة التقنية، حيث تخرج عام 1964، وأصبح معيداً في المعهد عام 1966، لكن بعد عامين غادر إلى المملكة المتحدة ليلتحق بجامعة "يورك" وليحصل منها على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد عام 1973. وفي العام التالي عاد إلى بلاده وأصبح أستاذاً في المعهد العالي للعلوم الاقتصادية والمالية، ثم استاذاً في الجامعة الكاثوليكية البرتغالية. وبداية من عام 1979 عين أستاذاً متفرغاً في "جامعة لشبونة الجديدة"، قبل أن يتولى منصب مدير الدراسات في المصرف المركزي البرتغالي. وفي الفترة بين عامي 1996 و2004 عاد ليصبح رئيس مجلس إدارة المصرف، وأستاذ التسيير في المعهد العالي للعلوم الاقتصادية والمالية. أما الحياة السياسية لسيلفا فبدأت متأخرة، عقب ثورة القرنفل التي أطاحت بالدكتاتورية في البرتغال عام 1974، ففي ذلك العام انضم إلى "الحزب الشعبي الديمقراطي" بقيادة "كارنيرو" الذي أصبح رئيساً للوزراء في يناير 1980، فعين سيلفا وزيراً للمالية والتخطيط، فاكتسب شهرته كليبرالي يحاول إزالة الكوابح أمام حرية المؤسسات. لكن الحكومة حُلت بعد شهر على وفاة "كارنيرو" عام 1981. وفي انتخابات إبريل 1983 فاز تحالف اليسار بالانتخابات التشريعية، ليتحول "الحزب الشعبي الديمقراطي" نحو المعارضة. لكن حكومة التحالف الاشتراكي منيت بإخفاقات وشهد عهدها عدة قلاقل، مما اضطر رئيس الجمهورية للدعوة لانتخابات مبكرة في أكتوبر 1985. وقبل ذلك كان قد تم انتخاب سيلفا، في يونيو من العام نفسه، على رأس "الحزب الشعبي الديمقراطي"، ليعيد تنظيم صفوف الحزب ويقوده نحو الفوز بأغلبية نسبية (88 مقعداً)، ومن ثم تسمية سيلفا كرئيس للوزراء في نوفمبر من العام نفسه، حيث تحالف مع "حزب الوسط الديمقراطي الاجتماعي"، ذي الـ22 مقعداً في مواجهة اليسار الممثل بـ95 مقعداً. لكن بعد عامين فقط صوت البرلمان بحجب الثقة عن حكومته، مما أدى لتنظيم انتخابات نيابية مبكرة في يوليو 1987. وفي هذه الانتخابات حقق "الحزب الشعبي الديمقراطي" فوزاً تاريخياً بنيله 50.22 في المئة من الأصوات وحصوله على 148 من أصل 250 مقعداً، كأول مرة يستطيع فيها حزبٌ الفوزَ لوحده بأغلبية مطلقة. ولدى إعلان حكومته، كشف سيلفا عن نيته التصدي لطيف من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، يعتبر أنصاره أنه نحج في تخطيها، وأن ذلك أهله للفوز بولاية ثالثة في أكتوبر 1991 حيث حقق لحزبه فوزاً انتخابياً باهراً آخر بحصوله على 50.6 في المئة من الأصوات. وقد تميزت فترته الأخيرة على رأس الحكومة، بخفض الضرائب، وبسياسة التقويم الاقتصادي، كما عرفت البرتغال نمواً اقتصادياً مرتفعاً تجلى في تحسن الميزان التجاري. إلا أن الأزمة الاقتصادية الأوروبية لعام 1993، والتي استجدت معها مشكلات أهمها ارتفاع البطالة في البرتغال، أضرت بشعبية سيلفا، فخرج حزبه خاسراً في انتخابات أكتوبر، ليعود إلى المعارضة بعد عشر سنوات من الحكم، وهي أطول فترة قضاها رئيس وزراء في سدة السلطة منذ عودة الديمقراطية للبرتغال. لكن تلك لم تكن النهاية بالنسبة لسيلفا، إذ خاض في يناير 1996، انتخابات الرئاسة ضد عمدة لشبونة ومرشح الحزب الاشتراكي الحاكم، "جورج سامبايو" الذي فاز بنسبة 53.9 في المئة، مقابل 46.1 في المئة لسيلفا الذي ردّ بإعلان انسحابه من الحياة السياسية. بيد أنه عاد للمنافسة في الانتخابات الرئاسية، ففاز بها في عام 2006 بنسبة 50.6 في المئة، فأصبح الرئيس التاسع والعشرين للبرتغال، وأول رئيس برتغالي ينتمي لوسط اليمين منذ ثورة القرنفل. وقد تميزت ولايته الرئاسية الأولى بالتعايش الهادئ مع حكومة الاشتراكي "سوكراتيس"، في إطار سياسة "التعاون الاستراتيجي"، كما سماها، وإن شهدت لحظات يمينية واضحة؛ ففي عام 2006 عارض مشروع قانون يبيح الإجهاض، حيث عرضه على أنظار المحكمة الدستورية التي أقرّته أخيراً كما أقره البرلمان بعد الاستفتاء عليه. ورفض اعتماد قانون يتعلق بالطلاق و"زواج الأمر الواقع"، واعترض لدى المحكمة الدستورية أيضاً على قانون يجيز الزواج المثلي. ومع ذلك لا يفتأ سيلفا يذكر مواطنيه بمهنيته كاقتصادي في المقام الأول، حيث دعا في حملته الانتخابية الأخير عموم الطبقة السياسية البرتغالية للتوحد في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية. كما لم يفتأ يذكرهم بأنه كرئيس لا يملك صلاحية الحكم ولا سلطة التشريع. فالبرتغال جمهورية ديمقراطية يحكمها دستور عام 1976، ووفقاً له يتم انتخاب رئيس الجمهورية ذي دور إشرافي وغير تنفيذي... لذلك لم يجد سيلفا صعوبة في التعايش مع حكومة اشتراكية، كما لن يتجاوز دوره في ملف الأزمة الاقتصادية التي يهدد شبحُها البرتغالَ بما يشبه حالة اليونان، حدود الدعوات والنصائح والتوجيهات! محمد ولد المنى