قامت اللجنة الإسرائيلية المكلفة بالتحقيق في ملابسات الهجوم على سفينة مرمرة التركية في مايو 2010 بنشر تقريرها نهاية الأسبوع الماضي، وليس غريباً أن تشير لجنة "تيركل"، حسب الصحافة العبرية، إلى أن الجيش الإسرائيلي كان يدافع عن نفسه ولم ينتهك أي قاعدة من قواعد القانون الدولي عندما هاجم السفينة التركية ونزل على متنها، وهو ما أسفر عن مقتل تسعة مواطنين أتراك بمن فيهم مواطن يحمل جنسية أميركية. والسؤال الحقيقي بعد نشر نتائج التقرير الذي أعدته اللجنة الإسرائيلية، هو حول مدى تأثيره على العلاقات التركية الإسرائيلية وقدرته على التخفيف من التوتر في العلاقات بين الجانبين والذي تصاعد عقب حادثة السفينة؛ فقد تحولت تركيا على مدى السنوات الأخيرة إلى قوة إقليمية ودولية صاعدة، وقد كانت إلى وقت قريب من أوثق حلفاء إسرائيل بين الدول المسلمة، لذا تحتاج إسرائيل إلى تصويب علاقتها مع تركيا ووضعها في سكتها الصحيحة حتى لو لم يكن ذلك بنفس درجة الدفء التي ميزتها في الماضي. والحقيقة أنني خلال زيارة قمت بها إلى المنطقة في شهر أكتوبر الماضي والتقيت أثناءها برئيس الحكومة التركي، بالإضافة إلى مسؤولين أتراك وإسرائيليين، تبين لي أن الفرصة مازالت قائمة لعودة العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها، لكن ذلك يتطلب توفر إرادة سياسية قوية لدى الطرفين بما فيها استعداد تل آبيب لمساءلة تفكيرها السياسي الذي قاد إلى الهجوم على السفينة التركية. ومع الأسف لا يبدو أن تقرير لجنة "تيركل" أدرك هذا المعطى بعدما أجل الجزء الثاني من التقرير المتعلق بالأبعاد السياسية للهجوم على السفينة. ورغم مرور كل هذا الوقت على الحادث المؤلم، مازال من الصعب تبرير سلوك إسرائيل وقرارها بالهجوم على سفينة مرمرة بينما كانت تبحر في المياه الدولية متجهة إلى قطاع غزة لكسر الحصار الإسرائيلي وإيصال المساعدات الإنسانية إلى الأهالي المحاصرين، وهي السفينة التي سيرتها منظمات تركية غير حكومية تقول إسرائيل إنها تعاديها، لكن وبصرف النظر عن النوايا الحقيقية للسفينة والمشرفين عليها، كانت أمام إسرائيل خيارات أخرى عدا إصدار الأمر بالهجوم الدامي والذي كان من المتوقع أن يقابل بمقاومة طاقم السفينة. فلو أن الإنزال على متن السفينة حصل ضمن المياه الإقليمية لإسرائيل، أو أنه تم تعطيل السفينة وجرها بسلام إلى أحد الموانئ الإسرائيلية، لأمكن تجنب الأسوأ وحقن الدماء. والأكثر من ذلك مازال الجانب الإسرائيلي لم يفهم بعد التأثير الذي أحدثه الهجوم من قبل دولة كانت تعتبر صديقة وقتل مواطنين أتراك على الرأي العام التركي، وهو ما أوضحه "إبراهيم كالين"، مستشار الشؤون الخارجية لرئيس الوزراء التركي قائلا: "لم نواجه شيئاً مماثلاً مع أي بلد آخر في المنطقة، لكن يبدو أن إسرائيل لا تفهم، فلا دولة في العالم تلتزم الصمت عندما يقتل تسعة من مواطنيها في أعالي البحار". بل إن الدولة العبرية لم تدرك تأثير ما جرى على أردوجان شخصياً والذي أدرج الحادث ضمن سلسلة من الإهانات الموجهة ضده، لاسيما وأنه لم يكن في السابق معادياً لإسرائيل التي زارها في عام 2005، وكان رئيس الوزراء التركي أيضاً قد استضاف في ديسمبر 2008 رئيس الحكومة الإسرائيلي وقتها، إيهود أولمرت، وأمضى معه ساعات طويلة ينقل فيها رسائله عبر الهاتف إلى الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي كان حاضراً هو الآخر في اسطنبول. لكن أولمرت الذي جاء ليتفاوض مع السوريين لم يطلع الأتراك على نيته الهجوم على غزة بعد ثلاثة أيام، بحيث شعر أردوجان بأنه غُدر به لتنهار جهود الوساطة التركية وتتلقى العلاقات الإسرائيلية التركية ضربة قوية. وجاء التعاطف الكبير الذي أبداه رئيس الوزراء التركي مع غزة وانتقاده لإسرائيل، ليستنتج العديد من الإسرائيليين بأن تركيا تحولت إلى عدو لبلادهم، وهي قراءة تبسيطية لا تراعي رغبة تركيا في إدخال المعونات الإنسانية إلى قطاع غزة والمساعدة في إعادة إعمارها بعد الدمار الكبير الذي ألحقته بها الآلة العسكرية الإسرائيلية. غير أن ما أجج المشاعر ضد إسرائيل هو حادثة مرمرة التي صعدت الخطاب التركي حول غزة إلى أن وصل الأمر إلى سحب السفير التركي من إسرائيل لكن دون أن يقطع أردوجان تماماً مع إمكانية العودة إلى تطبيع العلاقات مشترطاً لذلك تقديم إسرائيل اعتذارها ودفع تعويضات لأسر الضحايا. وقد كان أردوجان صريحاً في طلبه عندما قال لي: "طالما إسرائيل لا تعتذر ولا تدفع التعويض، لا نستطيع إعادة العلاقات بسهولة معها". وهو ما أكده أيضاً "سوات كينيكلي أجلو"، المتحدث باسم لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي، بقوله: "إن مثل هذه الحوادث تحصل بين الدول الصديقة، لكن أحدها يعتذر للآخر". ورغم محاولة تجسير الهوة بين الطرفين واللقاءات التي أجراها مبعوثو الدولتين في كل من بروكسل وجنيف لإيجاد لغة مشتركة ترضيهما معاً، إلا أنهما لم يتوصلا إلى صيغة مشتركة، بحيث أصر الجانب الإسرائيلي على موقفه الذي عبر عنه نتنياهو بالقول: "لن يكون هناك اعتذار". وفي هذه المرحلة يبقى الحل الوحيد للخروج من المأزق هي اللجنة التي شكلتها الأمم المتحدة، بحيث يتوقع المسؤولون في إسرائيل وتركيا أن تخلص اللجنة التي يرأسها رئيس الوزراء النيوزيلاندي السابق، جيفري بالمر، إلى صيغة ترضي الطرفين، لكن تظل المشكلة في أن اللجنة ستبني توصياتها على أساس النتائج التي توصلت إليها لجان التحقيق في إسرائيل وتركيا، وفيما أنهت تركيا تقريرها قبل مدة طويلة مازالت لجنة "تيركل" الإسرائيلية تماطل في إصدار تقريرها النهائي، وكلما تأخر الأمر ساءت العلاقات بين البلدين وهو ما يثير تساؤلاً جوهرياً يتعين على الإسرائيليين طرحه على أنفسهم حول ما إذا كان الأفضل لهم التضحية بمشاعر الاعتزاز الوطني مقابل الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية مع تركيا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"