لا شك أن وقع انتصار الثورة في تونس في ثلاثة أيام، في عطلة نهاية أسبوع، بعد مسيرات شعبية لمدة ثلاثة أسابيع انطلاقاً من ولاية سيدي بوزيد حتى عمت البلاد كلها وصبت في قلب العاصمة، ما زال يثير الإعجاب والدهشة من سرعة انهيار النظم الديكتاتورية على رغم ما قد تملك من أدوات القمع. والآن بعد أن انتصرت الثورة بدأت قضايا ما بعد الثورة تفرض نفسها كما حدث من قبل بعد التحرر من الاستعمار وبداية المشاكل بعده في بناء الدولة اقتصاديّاً في التنمية وسياسيّاً في بناء المؤسسات. والخلاف القائم الآن بعد انتصار الثورة في تونس هو بين تيارين أو بين رؤيتين: إصلاح تدريجي، أم ثورة فورية؟ وهو خلاف طبيعي يحدث في كل الثورات بين نهجين، كلاهما صحيح، له مبرراته وأسبابه. وهو نفس الخلاف بين الأفغاني ومحمد عبده، الأفغاني كان يريد ثورة جذرية تقضي على كل نظم التسلط والطغيان. ومحمد عبده كان يريد إصلاحاً تدريجيّاً يحقق مطالب الثورة. وهو الخلاف نفسه في الثورة الروسية بين البلشفيك والمنشفيك. وحجج الإصلاح أن الثورة في حاجة إلى مرحلة انتقالية، من القهر إلى الحرية، ومن الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن الحكم القديم إلى الحكم الجديد. وهو انتقال سلمي للسلطة، حتى لا يقع الخلاف بين فرقاء النضال وفصائل الثوار. ودون ذلك تقع الثورة في المجهول. وينشأ فراغ سياسي لا يستطيع الثوار ملأه. الاستقرار ضرورة للثورة مثل الحركة، ولكن الحركة لا تعني الانقلاب الفجائي، والتغير من الضد إلى الضد، والتحول من النقيض إلى النقيض. الثوار يقودون الجماهير في الشارع ولكن بناء الدولة في حاجة إلى متخصصين. وهو نفس النقاش القديم الذي نشأ في بدايات الثورات العربية التي قادها "الضباط الأحرار" منذ أوائل الخمسينيات بين أهل الثقة وأهل الخبرة. وإن حدث فراغ بعد انهيار النظام القديم وقبل بداية النظام الجديد فقد يملؤه الجيش ونعود من جديد إلى حكم العسكر الذي تعاني منه بعض الأنظمة العربية. وعلى رغم أن الجيش التونسي لا يتدخل في الحكم، وتقتصر مهمته على الدفاع عن أمن البلاد ضد العدوان الخارجي وعن أمن الشعب ضد الانفلات الداخلي إلا أن السلطة لها إغراءاتها. تبدأ ولا تنتهي. ولها سحرها في مركز الصدارة والإعلام. ولها بريقها في التمتع بمزاياها في الجمع بين السلطة والمال. فما العيب في الصبر أشهراً معدودة حتى يتم التحول تدريجيّاً من النظام القديم إلى النظام الجديد بعد أن صبر الشعب التونسي ثلاثة وعشرين عاماً؟ إن السلطة الحالية مؤقتة وليست دائمة. مهمتها الإعداد لترسيخ الثورة الدائمة وتحويلها إلى مؤسسات. ووجه الاعتراض على هذا التحليل هو أن الحكومة المؤقتة الحالية تعني أن الرئيس سقط ولم يسقط النظام، وأن الديكتاتور انتهى ولم تنتهِ الديكتاتورية. فأكثر من نصفها من رجال الحكم السابق. وأولهم رئيس الوزراء الذي قَبِلَ أن يكون رئيساً مؤقتاً للجمهورية بعد أن هرب الرئيس المخلوع. فكيف يمكن الثقة بهم؟ وهل يكفي استقالة بعضهم من الحزب الحاكم، "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي يعادل "الحزب الوطني" في مصر؟ تطلب الثورة القطيعة مع الماضي ورموزه، وقلب صفحة جديدة في تاريخ تونس المعاصر. ولا رجوع إلى العهد البائد. منشأ الخوف من بقاء رجال النظام السابق ومؤسساته في الحكم أن يتم الالتفاف حول الثورة وخنقها والعودة إلى النظام السابق. فعيوب هذا الاختيار أكثر من مزاياه، ومخاطره أكثر من محاسنه، وأكثر مغامرة من الثورة، وأقل من مطالبها. لذلك يطرح الاختيار الثاني الذي يحمله الثوار بقوة وهو استمرار الثورة حتى نهايتها "ثورة حتى النصر". اندلعت الثورة وتريد قطف ثمارها. وهو رد فعل طبيعي على النظام السابق طبقاً لقانون الثورات. فلم تبق الثورة الفرنسية على لويس السادس عشر. ولا تحتاج الثورة التونسية إلى المقصلة لأعدائها على رغم سقوط شهدائها. ولم تبق الثورة الروسية، ثورة أكتوبر 1917، على القيصر. تحتاج فقط إلى القطيعة مع النظام السابق ورموزه، حل الحزب الحاكم الذي أصبح رمزاً للتسلط والفساد. حل المجلس الاستشاري الذي عينه الرئيس، حل مجلس النواب الذي أتى على مقاس الرئيس بانتخابات مزورة. ولا خوف من الفراغ السياسي. إذ يمكن تكوين حكومة إنقاذ وطني تمثل جميع الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني. ويمكن تشكيل لجان ثورية لملء الفراغ السياسي في الأحياء والحياة العامة. وهو ما حدث بالفعل عندما بدأت الميليشيات التابعة للحرس الرئاسي السابق في النهب والسلب للممتلكات الخاصة لتشويه الثورة، وبدأت الأحياء تكون لجانها الشعبية للدفاع المدني. فالخيار الثاني عيوبه أقل، ومنافعه أعظم. ويلبي متطلبات الثورة، ويحقق أهدافها. بعدها يهدأ الشارع. وتعود الجماهير إلى حياتها العادية بعد أن اطمأنت إلى انتصار الثورة، من البداية إلى النهاية، من الجذور إلى الثمار، من الشارع إلى مؤسسات الحكم. والسؤال الآن: ما العمل لحل هذا الخلاف بين هذين الخيارين، وكلاهما صحيح، وإن كان الأول أفضل للإصلاحيين والثاني أفضل للثوار؟ هل من سبيل إلى التوفيق بين الخيارين أو على الأقل تضييق شقة الخلاف بينهما من أجل الحفاظ على الثورة، بجناحيها المعتدل والجذري؟ يمكن ذلك باتباع الخطوات العشر التالية: 1- الإقلال من الاعتماد على رجالات الحكم السابق وكوادره ورموزه لصالح الثوار، بالاعتماد على الشخصيات الوطنية المستقلة التي رفضت التعاون مع النظام السابق أو مع الذين غادروا البلاد وعملوا ضد الحكم السابق من الخارج من أساتذة ومحامين ومهنيين وإعلاميين وغيرهم. 2- حل مؤسسات النظام السابق بداية بالحزب الحاكم ومؤسساته وإرجاع ممتلكاته للدولة، والفصل بين الحزب والدولة، وحل مجلس النواب من أجل الاستعداد لإجراء انتخابات تشريعية حرة، وإلغاء الدستور من أجل صياغة دستور جديد يعبر عن روح الثورة. 3- القبض على بعض رجالات الحكم السابق وتقديمهم للمحاكم العادية أو الثورية من أجل استرداد حقوق الشعب ومعاقبة الذين انتهكوا حقوقه وحتى تكون للقضاء كلمته العليا في الفصل بين الشعب وخصومه. 4- محاكمة الرئيس المخلوع غيابيّاً حتى لا يترك مطلق السراح، ويتآمر على الثورة من أجل العودة من جديد. وأنصاره والمنتفعون منه ما زالوا مطلقي السراح ومستعدين للعمل من جديد لاسترداد ما فقدوه من سلطة وثروة. 5- استرداد الأموال المنهوبة من الشعب التي حصل عليها بعض رجال الحكم السابق بالرشوة والمحسوبية والفساد، وإيقاف تحويلات البنوك الخاصة بهم، وملاحقتهم في البنوك الخارجية، واستدعاؤهم للمثول أمام المحاكم عن طريق البوليس الدولي، "الإنتربول". 6- الإسراع في تحقيق المطالب الاجتماعية للثورة، وإعداد برامج للقضاء على البطالة، وإعادة توزيع الدخل، وربط الأجور بالأسعار، وتشغيل الخريجين، وتوفير الإسكان الشعبي، ووضع ضرائب تصاعدية على مرتفعي الدخول. 7- وضع برنامج زمني سريع لتحقيق هذه المطالب حتى يشعر الثوار بأن الأمور ليست مجرد وعود بلا ضمانات لتهدئة الثوار وتسكين غضبهم. 8- سرعة الترخيص للأحزاب للعودة إلى العمل السياسي الوطني، والدخول في الانتخابات التشريعية القادمة. 9- الحوار العلني في أجهزة الإعلام حول برنامج إنقاذ وطني عام للقضايا الاجتماعية والسياسية حتى يشارك الشعب في تقرير مصيره وإعداد رؤية، تعبر عن ثورته. 10- عودة اليسار الإسلامي كتنظيم سياسي حزبي أو مدني، وإرجاع منابره وكتبه ومجلاته. فهو المخول لتحقيق إجماع وطني بين القوى الإسلامية والقوى العلمانية، ديمقراطية أو اشتراكية أو شيوعية أو قومية بحيث يكون هو منبر الحوار الوطني لكل القوى الثورية التي شاركت في صنع الثورة.