وفّرت لنا تونس والسودان، مع مطلع عام جديد وعقد جديد، حدثين ضخمين وجبّارين للتمعّن فيهما والبناء عليهما: فتونس، ومن خلال حركة شعبيّة عاصفة، تمكّنت من أن تطيح نظاماً قمعيّاً وفاسداً استمرّ منذ انقلاب بن علي على بورقيبة عام 1987، علماً بأنّ بن علي ورفاقه شكّلوا امتداداً للحقبة البورقيبيّة. أمّا السودان، ومن خلال الاستفتاء الشعبيّ، فمنح سكّانه الجنوبيّين، للمرّة الأولى، فرصة لتقرير مصيرهم؛ فأتت نتيجة ذاك الاستفتاء كاسحة في تأييد الانفصال وإقامة دولة في الجنوب. صحيح أنّ الوضعين الجديدين لم يستقرّا بعد ولم يرسوا على حال صلبة أو واضحة. فالانتفاضة التونسيّة لا تزال تواجهها الاحتمالات الكثيرة والمتضاربة: هل تفضي إلى جمهوريّة ديموقراطيّة مستقرّة، أم إلى فوضى مفتوحة، أم إلى حكم إسلاميّ تنشئه حركة "النهضة"، أم إلى حكم عسكريّ يقوم بذريعة قطع الطريق على الاحتمالين الأخيرين؟ وبدورها فإنّ التجربة السودانيّة الجديدة لا تزال تثير الكثير من التكهّنات: ففي الشمال، هل تكون دارفور أو مناطق شرق السودان على أجندة التقسيم هي الأخرى، وهل يكون ذلك في مستقبل قريب أو بعيد؟، وفي الجنوب، هل ينشأ نظام سياسيّ مستقرّ، أم تندلع حروب أهليّة وإثنيّة بين أكثريّة الدنكا وباقي الأقليات، أم يتصادم الأحيائيّون والمسيحيّون، أم يقوم نظام استبداديّ؟ لا شكّ أنّ هذه الأسئلة جميعها مشروعة وملحّة، وستبقى كذلك إلى أن تهدأ عواصف البلدين وترتسم صورتهما المستقبليّة. بيد أنّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ عمودين أساسيّين من أعمدة الإيديولوجيّة العربيّة السائدة قد تصدّعا. أمّا العمود الأوّل فهو أنّ التغيير إنّما يحصل، حين يحصل، مرفقاً بنظريّة عنفيّة. وهذا ما بدأته الانقلابات العسكريّة الناصريّة والبعثيّة، بين الخمسينيات والسبعينيات، في مصر والعراق وسوريا، ثمّ في اليمن وليبيا والسودان. وغنيّ عن القول إنّ الانقلاب العسكريّ هو تعريفاً عمل عنفيّ، غالباً ما يجد تسويغه في نظريّات عنفيّة تُستعار من اللينينيّة والفاشيّة الأوروبيّتين. غير أنّ ما بدأته الانقلابات أكملته حركات الإسلام السياسي، ابتداء من الثمانينيات حيث رفعت العنف إلى سويّة الهدف بذاته. وإذا جاز اعتبار سيّد قطب الأب الروحيّ للنهج النضاليّ الإسلاميّ، فإنّ المنظّر الإخوانيّ المصريّ لم يقتصد في ردّه شطراً أساسياً من عالمنا المعاش إلى "الجاهليّة"، وفي دعوته إلى "حاكميّة" إلهيّة لا يمكنها بتاتاً أن تتعايش مع "الجاهليّة". وحتّى اليوم يمكن الجزم بأنّ انتفاضة تونس نأت عن هذه الخيارات بشقّيها العمليّ والنظريّ. فالضحايا الذين أسقطهم قمع النظام السابق وفلوله، كانوا مدنيّين ولم يحملوا السلاح، كما أنّهم لم يعبّروا عن أيّة نظريّة تبرّر العنف وتسوّغه أو ترفعه إلى مصاف الضرورة والحتميّة. أمّا العمود الثاني في الأيديولوجيّة السائدة فهو أنّ الدول العربيّة ستبقى واحدة موحّدة على النحو الذي ولدت عليه لدى نيلها الاستقلالات. وكانت هذه القناعة الراسخة محتواة، نظريّاً وعمليّاً، في مؤسّسة الجامعة العربيّة منذ نشأتها عام 1945. أبعد من هذا، فإنّها أجازت لبعض الأحزاب والقوى الراديكاليّة، ولو على نحو ضمنيّ، الانتقال إلى المطالبة بوحدات أكبر، عربيّة وإسلاميّة. ذاك أنّه ما دامت الدول القائمة مضمونة، باتت المهمّة التالية توسيعها! وطبعاً لم يدر في خلد حاملي هذه الأيديولوجيّة السائدة أنّ البلدان العربيّة، أو الكثير منها، قابلة لأن تصغر أيضاً، هذا إن لم نقل إنّ قابليّتها للتضاؤل تفوق قابليّتها للتوسّع والتمدّد. لقد شكّلت الحرب الأهليّة الإقليميّة في لبنان، والتي ابتدأت في أواسط السبعينيات، النذير الأوّل المهدّد لتلك الأيديولوجيّة. مع هذا أمكن للمعنيّين بالأمر تجاهل المشكلة وردّها إلى "مؤامرة تقسيميّة" لا تستحقّ التوقّف عندها. ثمّ، وفي طور لاحق، حين انفجر النزاع المذهبيّ في العراق، إثر إطاحة صدّام حسين عام 2003، أمكن المضيّ في تجاهل المشكلة بحجّة أنّ "الاحتلال الأميركيّ" هو المتسبّب. بيد أنّ ما حصل في السودان يضعنا وجهاً لوجه أمام تصدّع هذا المكوّن في الأيديولوجيّة العربيّة السائدة، خصوصاً أنّ الاستفتاء الشعبيّ هو الذي شكّل قاطرة التحوّل المذكور. وبطبيعة الحال ظهرت، هنا أيضاً، أصوات تتحدّث عن "المؤامرات" الغربيّة وسواها، إلاّ أنّها بدت باهتة جداً وذات قدرة ضئيلة على الإقناع. ولقائل أن يقول بحقّ إنّ الفوارق لا تُحصى بين تونس والسودان، وهذا صحيح تماماً. يكفي أن نذكر، في هذا المجال تحديداً، أنّ السياسات البورقيبيّة أوجدت في تونس طبقة وسطى صلبة نسبياً، كما أسّست لمساواة الجنسين ولولادة مجتمع مدنيّ وروابط مهنيّة، فضلاً عن مستويات تعليم حديث ومتقدّم. ورغم استبداد بن علي وفساده، بقي أن الاقتصاد التونسيّ في عهده حافظ على قوّته، وإن حال الفساد وتفاوت الاستثمار والتوزيع في انعكاس آثاره على السكّان. وهذا كلّه لم يعرفه السودان الذي عاش معظم سنوات ما بعد استقلاله تحت وطأة الأنظمة العسكريّة والفقر الذي اتّخذ في الجنوب شكلاً مدقعاً. ولئن عاش السودان في حروب أهليّة، معلنة أو مستترة، لم تفتر إلاّ قليلاً، فهذا ما لم تعرفه تونس منذ استقلالها حتّى اليوم. والحال أنّ هذه الفوارق، وغيرها، هي التي تفسّر لماذا اتّخذ التغيير السودانيّ شكل الانشطار الوطنيّ الكامل، بينما اتّخذ التغيير التونسيّ شكل الحدث الاجتماعيّ والسياسيّ. إلاّ أنّه، وكائناً ما كان الأمر، يبقى أنّ هذين البلدين العربيّين، وكلّ منهما بطريقته، وحسب ظروفه، كسرا عمودين أساسيّين من أعمدة الأيديولوجيّة العربيّة السائدة.