حظيت الماركسية باهتمام واسع من قبل المحللين والمفكرين الذين يسعون في هذه المرحلة إلى إعادة إحياء فكرها وتسليط الضوء على بعض نظرياتها في محاولة لتفسير الصعوبات التي تمر بها الرأسمالية في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي دفعت بالكثيرين إلى إعلان موت النظام الاقتصادي العالمي، أو على الأقل التنبؤ برأسمالية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التي جاء بها ماركس قبل أكثر من قرن من الزمن. لكن استدعاء الماركسية لتفسير قصور الرأسمالية عادة ما يصطدم بالاجتزاء والاستغلال غير الأمين لأفكارها، ما يحتم الرجوع الموضوعي والعلمي إلى تطورها عبر التاريخ. وهذا ما يحاول المؤرخ البريطاني، إيرك هوبزبون، التطرق إليه في كتابه الذي نعرضه هنا، "كيف نغير العالم... قصص ماركس والماركسية"، من خلال استنطاق أهم ما جاءت به الماركسية ومساءلة تنبؤاتها التي فشلت أكثر من مرة في التبلور على أرض الواقع، إذ رغم مقولة "ماركس" المشهورة حول تغيير العالم بدل الاكتفاء بتفسيره، ظلت العديد من الأفكار والمبادئ التي جاء بها، حسب المؤلف، طوباوية في أفضل الأحوال ولم تعرف طريقها إلى التطبيق حتى عندما سارعت أنظمة وثورات عدة إلى رفع شعار الماركسية كنظام للحكم، سواء تعلق الأمر بالاتحاد السوفييتي وتجربة ستالين المريرة، أو بالنظام الشيوعي في الصين الذي تبنى اقتصاد السوق ولم يعد يربطه بمبادئ ماركس إلا الاسم. غير أن الماركسية نفسها، يقول المؤرخ، كانت تتنازعها دائماً الميول التنظيرية ومساعي التغيير المبشر بالثورة. هذه الطبيعة المزدوجة للماركسية بين النظرية والتطبيق جعلت من الصعب على المؤرخين تعقب سيرورتها التاريخية وتمييز ما هو ماركسي فعلاً مما هو تزييف للماركسية، فلا أحد من معتنقي فكر ماركس وانجلز مثلاً ممن يرجعون فكره إلى جدلية هيجيل المثالية، أو يدرسون نظرية قيمة العمل وتعقيداتها... يحبذ ربط هذه البنية الفكرية والنظرية بممارسات يتبرؤون منها كتلك التي سقطت فيها التجارب العملية الماركسية. وهنا يستحضر المؤلف ذلك الشعور بالحرج الذي ينتاب المدافعين عن الماركسية عندما يصطدمون بالتجربة الستالينية وباقي التجارب الشيوعية في أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى تحالف ستالين مع هتلر خلال الحرب العالمية الثانية. وإذا كان الجزء الأول من الكتاب قد أفرده المؤرخ لمساءلة القضايا النظرية التي طرحتها الماركسية في محاولة منه لتبرئة ساحتها من الشوائب التي علقت بها أثناء الممارسة على أرض الواقع دون أن ينسى الهفوات التي سقط فيها ماركس نفسه عندما أثبت الزمن خطأ تنبؤه باندلاع الثورة في إنجلترا الأكثر تطوراً من الناحية الصناعية، فإنه خصص الجزء الثاني من الكتاب لاستعراض شامل للماركسية على مدى 130 سنة التي أعقبت وفاة ماركس، وفيها تظهر قدرة المؤرخ على استنطاق تجارب ماركسية عديدة على رقعة جغرافية عريضة تقارن بين ماركسية الحزب الشيوعي الهولندي وبين نظيره في فنلندا. لكن لوضع الماركسية في سياق تاريخي واضح يفرق المؤرخ بين نظرتين طبعتا التطور التاريخي للماركسية، فمن جهة كانت هناك نظرة الأحزاب الشيوعية ذات المواقف الطهرانية التي تعاملت مع الماركسية ليس كآلية لتحليل المجتمع وأنماط الإنتاج، بل كمجموعة من المقولات الجامدة التي تقود حتماً إلى الثورة بصرف النظر على توفر شروطها الموضوعية، ومن جهة أخرى النظرة الأكاديمية التي تدرج الماركسية في سياقها الفكري والتاريخي وليصبح ماركس بموجبها مجرد فيلسوف آخر مثل نيتشه وفرويد وغيرهما باعتباره منتجاً للفكر تستحق كتبه القراءة لمتعتها الذاتية بعيداً عن أبعداها الواقعية أو حمولتها الثورية. لكن ماذا عن الماركسية في القرن الحادي والعشرين؟ الحقيقة أن المؤرخ يفضل التعامل مع الماركسية كأداة للتحليل تصلح ليس لتغيير الواقع بل فقط لتحفيز التفكير في قيمة الرأسمالية وتماسك خطابها، فكأي نظرية فلسفية تسعى الماركسية إلى مساءلة اليقينيات والرد على مقولات نهاية التاريخ التي راجت في التسعينيات بعد سقوط الشيوعية وبروز الاقتصاد المعولم، وهي المقولات نفسها التي سقطت فيها الماركسية عندما تنبأت بقدوم عصر الثورة الشيوعية وتحول ملكية الإنتاج إلى الشعب، وهو ما لم يتحقق لصعوبة قراءة بوصلة التاريخ. فبعد مرحلة من الانتشاء استبدت بالرأسمالية في عقد التسعينيات، ها نحن اليوم نشهد عودة البروليتاريا من جديد في أكثر من بلد بعد انسحاق الطبقات الوسطى ورفض الشعوب الاستسلام لنبوءات المنظرين، سواء أكانوا من أتباع ماركس أم من حواريي أدام سميث. زهير الكساب ------ الكتاب: كيف نغير العالم... قصص ماركس والماركسية المؤلف: إيرك هوبزبون الناشر: ليتل براون تاريخ النشر: 2011