هل تكون شبكة الإنترنت أداة رئيسية من أدوات التحول الديمقراطي في القرن العشرين؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي يجيب عنه إيفجيني موروزوف، مؤلف الكتاب الذي نعرضه هنا وعنوانه "وهم الإنترنت... كيف لن تحرر الشبكة العالم"، وذلك بالنفي القاطع ومع التفنيد لكل الآراء التي تزعم أن تكنولوجيا الإنترنت سوف تكون أداة لتحرر الشعوب وانعتاقها من تسلط الأنظمة الشمولية الحاكمة في مختلف أنحاء العالم. والحقيقة أن الكثيرين اعتقدوا أن ظهور الإنترنت في نهايات القرن العشرين وبدايات الألفية الجديدة، يمثل أكبر حدث، وأنه سوف يكون له تأثيره المباشر على انتشار الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، منذ اختراع المجتمعات البشرية لصناديق الاقتراع والعملية الانتخابية. ذلك أن شبكة الإنترنت توفر نافذة حرة مفتوحة للجميع، يمكن عبرها الحصول على المعلومات بكل حرية، كما توفر وسيلة سهلة للتواصل بين الأفراد والجماعات دون حجر أو قيود عليها. واعتقد بعض الخبراء والمحللين السياسيين أن الشبكة سوف تمكن الشعوب من النهوض في وجه جلاديها، وتمكنها من إسقاط الأنظمة المستبدة. بل إن مارك بفيل -أحد مستشاري الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق بوش الابن- مضى أبعد من ذلك بترشيحه لموقع "تويتر" لنيل جائزة نوبل للسلام. وفي بريطانيا أيضاً وقع رئيس الوزراء السابق بلير في فخ الطوباوية الإلكترونية بقوله: "إنه لم يعد ممكناً في عصر الإنترنت تكرار حدوث مجازر جماعية مثل تلك التي شهدتها رواندا في أواسط تسعينيات القرن العشرين". كما أنه من ضحايا هذه الطوباوية الإلكترونية الرئيس الأميركي الأسبق ريجان، الذي علق ذات مرة قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي قائلاً: "لا تنفك النسائم الإلكترونية تهب على الستار الحديدي، فتهزه وتخترقه شيئاً فشيئاً تاركة فيه ثقوباً كما لو كان قطعة من حرير ناعم مهترئ". وهناك رسالة واحدة مشتركة تبعث بها جميع هذه التصريحات والأقوال الصادرة عن زعماء وساسة معروفين كما يقول الكاتب: "سوف تثْبت وفرة الجرعات المعلوماتية، وسهولة الاتصال التي توفرها تكنولوجيا الإنترنت، قدرتها على زعزعة الأنظمة الديكتاتورية". والحجة النقيضة التي يدفع بها "موروزوف" في وجه هذه المزاعم الطوباوية الحالمة، هي القول بأن في وسع الأنظمة الشمولية استخدام تكنولوجيا الشبكة نفسها في قمع شعوبها. فعقب انحسار مد المظاهرات الاحتجاجية، غالباً ما تتمكن سلطات الأمن من ملاحقة الناشطين والمعارضين للنظام إلكترونياً عبر عناوين بريدهم الإلكتروني. كما تتمكن السلطات من استخدام التكنولوجيا الإلكترونية للتعرف على وجوه الأشخاص الملاحقين، بعد أن كانت العناصر الأمنية قد التقطت لهم صوراً شخصية بواسطة الهاتف النقال أثناء مشاركتهم في المظاهرات الاحتجاجية. وليس هذا السلوك التحكمي القابض لحرية الشعوب بواسطة تكنولوجيا الإنترنت، قاصراً على الأنظمة الشمولية وحدها. فهناك مجموعات أخرى تريد فرض هيمنتها وتصوراتها الخاصة على مجتمعاتها، وتتقن هي الأخرى توظيف الشبكة لخدمة أجندتها الخاصة. ويضرب المؤلف مثالاً لهذه الجماعات بتنظيم "القاعدة" الذي أتقنت عناصره وناشطوه استخدام تكنولوجيا الإنترنت والهواتف النقالة وغيرهما من وسائل الاتصال الحديثة، لأغراض جمع المعلومات، والتخطيط لهجمات التنظيم وتنفيذ عملياته بذات الكفاءة التي تستخدم بها وكالات الاستخبارات والجيوش الغربية الشبكة الإلكترونية ضده. وفي مثال آخر أورده المؤلف ضمن تفنيده ودحضه للتصورات المثالية الحالمة للدور الذي يمكن أن تؤديه الشبكة في تحرر الشعوب وانعتاقها، قال إن السلطات الصينية أطلقت برنامجاً إلكترونياً يسمى Green Dam بغرض التعرف على سلوكيات مستخدمي الشبكة واهتماماتهم الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى منعهم من الدخول إلى المواقع المحظورة. ولكي تحجب السلطات المستخدمين من الوصول إلى المواقع الإباحية مثلاً، شدد البرنامج رقابته على أي موقع يكثر فيه استخدام اللون الوردي -الذي يرجح أن له علاقة بالإباحية حسب تقدير السلطات- لكن ما حدث هو تمكن الإباحيين من ذوي البشرة الداكنة بعض الشيء، من عرض أجسادهم العارية والإبحار بها كيفما يشاؤون، دون أن يتمكن البرنامج من حجبهم أو ردعهم! وفي عام 2007 تبرعت مجموعة من الأثرياء الغربيين بأموال ضخمة خصصت لتمويل برامج هدفت إلى توسيع استخدام الشبكة الإلكترونية في عدد من الدول التي تهيمن عليها النظم الشمولية القمعية، على أمل أن تسهم الشبكة في توسيع مدارك مستخدميها في تلك الدول، ورفع مستوى وعيهم السياسي. لكن فوجئ الأثرياء الواهمون بنتائج استطلاعات الرأي التي أجريت بعد بضعة أشهر فحسب من توسيع تكنولوجيا الإنترنت في تلك المجتمعات. فقد أظهرت النتائج أن نسبة كبيرة جداً من المستخدمين لا تستغل الشبكة لأغراض تعليمية أو تثقيفية، وإنما استغلتها للإبحار في المواقع الإباحية، وبرامج الترفيه الموسيقي، ومشاهدة الأفلام... كل ذلك بعلم السلطات الحاكمة ومباركتها. فمن تكتيكات النظم المستبدة أن تسمح لشعوبها بالانشغال بكل ما يصرف الأنظار والوعي العام عن ممارساتها القمعية. وبذلك تحولت شبكة الإنترنت إلى مخدّر مثل الكوكايين والأفيون، بدلاً من إسهامها في رفع الوعي السياسي للشعوب المقموعة، ودفعها إلى الاحتجاج والثورة على القمع والاستبداد. عبدالجبار عبدالله ------ الكتاب: وهم الإنترنت: كيف لن تحرر الشبكة العالم المؤلف: إيفجيني موروزوف الناشر: بيبليك آفايرز تاريخ النشر: 2011