مما هو معروف عن هنري كيسنجر -وزير خارجية أميركا في إدارتي نيكسون وفورد- تفضيله لإدارة النزاعات بدلاً من حلها. ويعتقد كيسنجر أنه طالما لم يصل النزاع إلى مرحلة الانفجار، فإن من الأفضل إدارته بدلاً من حله، لأن إدارته تعطي واشنطن نفوذاً أكبر على القوى الإقليمية التي تعتبر طرفاً فيه، وعلى الاتحاد السوفييتي، الخصم الرئيسي للولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة. وقد طبق كيسنجر فلسفته هذه على نزاع الشرق الأوسط. وبعد أن قضى على مبادرات سلفه في المنصب "ويليام روجرز" السلمية الواعدة لحل النزاع، سمح كيسنجر للنزاع بأن يتفاقم ويزداد سوءاً، متجاهلاً بذلك التحذيرات المتكررة التي وجهها إليه السادات من احتمال تجدد اشتعال الحرب في ظل غياب حل تفاوضي يضع حدّاً لاحتلال إسرائيل للأراضي المصرية والسورية. وعندما اشتعلت الحرب بالفعل في أكتوبر 1973، انخرط كيسنجر في جهود دبلوماسية مكوكية محمومة، أسفرت عن إبرام عدة اتفاقيات لفض الاشتباكات العسكرية، وصولاً إلى إعادة فتح قناة السويس في نهاية الأمر. وعلى نقيض فلسفة كيسنجر تماماً أعلن أوباما التزامه بالانخراط التام في الحل السلمي التفاوضي لنزاع الشرق الأوسط منذ تسلمه لمهامه في البيت الأبيض. وقد أدى هدفه المعلن بحل النزاع بدلاً من إدارته إلى تحقيق تقدم مبدئي نحو إعادة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلى طاولة المفاوضات المباشرة. غير أن إدارة أوباما للعلاقة الخاصة التي تربط بين واشنطن وتل أبيب ثبت أنها فاشلة هي أيضاً بل مهينة لواشنطن. فبدلاً من أن تؤمّن هذه العلاقة استعداد الشريك الأصغر -إسرائيل- للانخراط في الحل السلمي، استطاعت إسرائيل من خلالها الإفلات من المحاسبة على سلوكها الهادم لأي حل سلمي. ذلك أن نتنياهو -الذي عرف بتفاخره الفج بتقويض اتفاقية أوسلو السلمية المبرمة بين الطرفين في منتصف عقد تسعينيات القرن الماضي- لم يكتف بتحدي أوباما ورفض الامتثال لمطالبته المتكررة بضرورة وقف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي -باعتبار أن ذلك يمثل شرطاً لازماً للمضي نحو الحل السلمي- فحسب، بل استطاع أيضاً أن يمتص سخونة الحماس الذي بدأ به أوباما انخراطه في جهود التسوية السلمية. بل إن ما نجح نتنياهو في تحقيقه على وجه التحديد هو قلب منهج أوباما الذي بدأ به رأساً على عقب. فبدلاً من السعي إلى تحقيق هدف حل النزاع، هناك ما يشير إلى انقلاب تام وارتداد من قبل إدارة أوباما نحو فلسفة كيسنجر: إدارة النزاع بدلاً من حله، ما لم تستجد الظروف ويتفاقم الوضع إلى درجة تقتضي الانخراط في حله بشكل حاسم. وفي حالة كيسنجر فقد أدت تلك الاستراتيجية إلى اندلاع حرب 1973، أما في ظل إدارة أوباما الحالية فربما تشتعل نيران عنف واسع النطاق في المنطقة مجدداً أيضاً. وفي غضون ذلك همد الحماس الذي بدأت به إدارة أوباما انخراطها في عملية سلام الشرق الأوسط. فلم تعد هذه العملية إحدى أولويات التغطية الصحفية الإخبارية، خاصة وقد استجدت في المنطقة أحداث خطفت الأبصار مثل التطورات السياسية التي حدثت في تونس مؤخراً، وهذا أمر مفهوم بالطبع. وفيما يبدو، فقد هبت رياح الثورات الديمقراطية التي اجتاحت دول أوروبا الشرقية في ثمانينيات القرن الماضي، مؤخراً على بلدان العالم العربي التي ألفت الأنظمة الشمولية الحاكمة. ويبدو أن واشنطن نفسها أصبحت الآن أكثر انشغالاً بقضايا إصلاح نظم الحكم في العالم العربي، بدل انشغالها بحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني اليوم. وهذا ما يؤكده التحذير الذي وجهته هيلاري كلينتون أثناء مخاطبتها لمؤتمر عقد بالعاصمة القطرية الدوحة مؤخراً، من مخاطر انتشار الفساد، والنظم التي لا تسمح بتمثيل كاف للمواطنين في إدارة شؤون أوطانهم، إضافة إلى تحذيرها لقادة المنطقة وحكامها من مغبة إقصاء المواطنين من المشاركة في العملية السياسية. غير أن من أوضح المؤشرات على فتور وفشل الرعاية الأميركية لعملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني، دعوة أطراف "الرباعية" الدولية -روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وأميركا- للانخراط مجدداً في هذه العملية، بعد فترة طويلة من الإهمال والإقصاء. ومن المتوقع أن تنعقد "الرباعية" في ألمانيا الشهر المقبل بهدف إحياء المحادثات التفاوضية بين طرفي النزاع. بيد أن النجاح الذي حققه نتنياهو في خدمة استراتيجيته الخاصة -القائمة على نسف العملية السلمية من أساسها- لا يقف عند حد إطفائه لشعلة الحماس التي بدأ بها أوباما، وإنما أيضاً يشمل نجاح أصدقاء إسرائيل في واشنطن في إقناع أوباما بتصعيد "دنيس روس" إلى منصب مستشار أعلى له في عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني. ومن لا يدري أن "روس" قد عرف بنشاطه الموالي لإسرائيل دائماً في جميع أدوار الوساطة التي قام بها في المنطقة؟ ففي تعيين "روس" لأداء دور موازٍ لمبعوث أوباما جورج ميتشل في المنطقة، عودة جديدة إلى التنافس الذي كان قائماً في السابق بين روجرز-كيسنجر، ومن ثم فإن فيه انتصاراً لنمط روس- كيسنجر: إدارة النزاع بدلاً من حله. وإذا ما تجاوزنا مسألة عدم مصداقية "روس" والطعن في نزاهة وساطته بين طرفي النزاع، يظل السؤال قائماً: لماذا قرر أوباما تصعيد شخصية عرفت بسجل طويل من فشل الوساطة مثل "روس"؟ والإجابة هي أن أوباما قصد بهذا القرار إرسال رسالة لحلفائه الإسرائيليين مفادها: "إن مصالحكم آمنة ومحمية هنا في البيت الأبيض". ومن المؤسف أنه ليس للفلسطينيين من أحد يحمي مصالحهم وحقوقهم داخل البيت الأبيض. وعليه فقد أصبح من قدرهم الآن التعايش مع عملية سلمية يلوثها النموذج الكيسنجري للتعامل مع النزاعات!