ثمة دلالات مهمة أفرزتها ثورة تونس الشعبية التي انفجرت في وجه النظام المخلوع، منها كونها حملت في داخلها روح التلقائية والمفاجأة، إذ حدثت دون مقدمات واضحة للعيان، رغم كل أجهزة الرصد الأمنية والسياسية، الداخلية والخارجية. لقد جرت في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لا توحي بوجود شيء من علامات الثورة، وإن وجدت فلم تكن واضحة في الأغلب؛ حيث كانت كل التقديرات الغربية تشير إلى أن تونس حققت معجزة اقتصادية، في ظل استقرار راسخ وقدر معقول من الديمقراطية. ولم يكن هناك ما يشير إلى أن المواطن التونسي كان عاجزاً عن توفير معيشة يومه، أو أنه يُعاني من البؤس والفقر كما في بعض الدول العربية. لكن ثروة البلاد كانت تتركز في أيدي أقلية، وكان حصار السلطة لقوى المجتمع المدني والسياسي خانقاً... مما أجج نقمة الشعب التونسي وصولاً إلى ثورة يناير التي انفجرت بشكل مفاجئ تقريباً وغير متوقع. وكما هو الحال بالنسبة لأكثر الثورات، فقد حدث ذلك أولاً داخل اللاشعور الجمعي، ليولد نزوعات نحو الرفض والعصيان، وإن لم يتوفر لها إطار منظم ومنسق. بيد أن الشارع تحرك مدفوعاً بأهداف موحدة وخلفيات مشتركة، لاسيما في ظل الفجوة الاقتصادية التي كانت تتسع باستمرار بين السلطة والشعب. لقد تحرك الشارع التونسي يقوده البسطاء والمثقفون والشباب والطلاب، كما انضمت إليه الطبقة الوسطى، وتضامنت معه الأحزاب السياسية وحرضته... في حلف مشترك للتخلص من الديكتاتورية وبناء عقد اجتماعي جديد. وكما هو الشأن بالنسبة لكل الثورات، فالبداية غالباً ما تتميز بآمال وأحلام وخطابات وشعارات كبيرة تطلب المثالية وتنشد الكمال، كما نرى اليوم في تونس، لكن هذا الأمر لن يدوم ولن يطول كثيراً، ففي المرحلة الثانية عادة ما ينقسم الثوَّار حول السلطة ويفرقهم تباين الأهداف وينتهي الأمر بتغلب طرف على الآخر. والخطورة هنا أن ينهزم الطرف المعتدل ويصعد التطرف ليتفجر الصراع مجدداً ويأتي دور القوى الخارجية، فتضعف الأهداف الكبيرة والأحلام المثالية للثوريين، وتعود السلطة المستبدة ولو بشعارات مختلفة ووجوه مغايرة! إن ارتدادات الثورة التونسية ذات آثار واضحة اليوم في المنطقة العربية، لأن الظروف والأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية متقاربة في أكثر البلدان، خاصة فيما يتعلق بقضايا الفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي. وكما قال عمرو موسى فإن النفس العربية منكسرة بالفقر والبطالة والتراجع العام في المؤشرات الحقيقية، إلى جانب مشكلات الافتقار إلى المشاركة السياسية. وذلك ما تشير إليه المظاهرات التي خرجت في أكثر من بلد عربي، وما صاحبها من مطالب بالتغيير والحرية والعدالة والمساواة. ولعل الشعوب العربية اليوم تبدو بحاجة ماسة إلى برلمانات حية تتبنى مشاكلها بصدق وأمانة، وإلى حياة كريمة، ورؤية جديدة ترسم لها المستقبل.