طرحت الوثائق المسربة التي حصلت عليها قناة "الجزيرة" القطرية وصحيفة "الجارديان" البريطانية، وما تضمنته من معلومات سرية تتعلق بالمفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل، مشكلة كبيرة بالنسبة للسلطة الفلسطينية، لاسيما وأن تلك الوثائق تشير إلى تنازلات كبيرة قام بها المفاوض الفلسطيني تجاه إسرائيل في العديد من القضايا مقابل التوقيع على اتفاقية سلام والحصول على دولة فلسطينية بتكلفة أوضحت الوثائق أنها باهظة جداً. ولعل أهم ما كشفته الوثائق، والتي هي عبارة عن محاضر اجتماعات ورسائل متبادلة عبر البريد الإلكتروني، موافقة السلطة الفلسطينية على إبقاء إسرائيل لأغلب الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية تحت سيادتها، بما فيها مستوطنة "أرييل" الواقعة وسط الضفة الغربية، فضلا عن التعامل مع حق عودة اللاجئين بمرونة ملفتة قزمت أعدادهم التي يمكنها الرجوع إلى الدولة الفلسطينية إلى أرقام رمزية لا تعبر حقيقة عن عددهم الكبير الموجود في المخيمات وخارجها في أنحاء الشتات. لذا تأتي هذه التسريبات لتكرس ضعف القيادة الفلسطينية بعدما رُفضت عروضها السخية من قبل إسرائيل، وهو ما يعني الإمعان في إذلالها وتعريضها للانتقاد، فماذا يعني هذا التطور الذي كشفته الوثائق؟ الحقيقة أنه من الصعب القفز إلى استنتاج متسرع مادامت تفاصيل الوثائق لم يفرج عنها كاملة ولا ندري ما الذي ستسفر عنه من حقائق إضافية، خاصة وأن عددها يصل، حسب قناة "الجزيرة"، الى نحو 1600 وثيقة. وربما ستفقد القصة جاذبيتها وتصبح جزءاً من المألوف بعد مرور الوقت، لكن ما تكشفه الوثائق ليس غريباً، إذ ولفترة طويلة كان هناك اعتقاد راسخ بأنه إذا كان الفلسطينيون يرغبون في انتزاع دولتهم ونيل الاعتراف الدولي بها، لابد لهم من تقديم تنازلات مؤلمة فيما يتصل بالمستوطنات واللاجئين والقدس، وهو ما شكل أساس خطة كلينتون للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين في الأيام الأخيرة لإدارته. وقد سع مسؤولو السلطة الفلسطينية في معرض الدفاع عن أنفسهم والتقليل من شأن الوثائق المسربة، إلى التأكيد على أن ما تم كشفه ليس سراً، بل يعرفه القادة العرب الذين يطلعهم المفاوض الفلسطيني على آخر المستجدات، وأن ما بدا أنه تنازلات من الجانب الفلسطيني ليس أكثر من محاولة لإبداء المرونة والدخول في مقايضة تستدعيها جميع عمليات التفاوض في العالم. لكن مشكلة هذا التبرير هي أن الوثائق المسربة جاءت فقط من أرشيف السلطة الفلسطينية ولم تتسرب مثيلاتها من الأرشيف الإسرائيلي للتحقق من الردود الإسرائيلية على العروض السخية التي كان يقدمها الفلسطينيون. وإن كانت المؤشرات تذهب إلى رفض إسرائيلي لما طرحه الفلسطينيون، وإلا لتم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، فالأكثر أهمية من ذلك كون الوثائق المسربة توضح أن الطرف الفلسطيني المفاوض كان ضعيفاً إلى درجة كبيرة في مباحثاته مع الجانب الإسرائيلي، ولم يكن في يده أياً من أوراق الضغط التي تعزز موقفه التفاوضي، خاصة في ظل الانقسام الفلسطيني. وليس غريباً في هذا السياق أن تستغل "حماس" التسريبات المحرجة لتنقض على السلطة الفلسطينية وتنتقد سياساتها، بل شككت في تمثيلها للفلسطينيين. والسؤال الآن هو ما إذا كانت هذه الحقائق التي كُشف عنها ستؤدي إلى أية اضطرابات داخل السلطة الفلسطينية، أو أنها بالعكس من ذلك ستدفع في اتجاه التسريع بالمصالحة الفلسطينية وطي صفحة الشقاق والانقسام التي أضعفت الجانب الفلسطيني. هذا وتأتي هذه الوثائق في سياق إقليمي مضطرب بدأ أولاً مع الانتفاضة التونسية التي أطاحت ببن علي ومازالت تفاعلاتها مستمرة، هذه الانتفاضة التي ترددت أصداؤها في دول المنطقة، لاسيما وأنها فاجأت الجميع ولم تكن متوقعة. فرغم ما بدت عليه تونس من استبداد وقمع سياسي فإنها كانت مستقرة وبعيدة عن الاضطرابات، وهو ما يرفع التوقعات في البلدان التي تعيش أوضاعاً مشابهة. فإذا كانت تونس قد عرفت انتفاضتها الخاصة، فلمَ لا يتكرر الوضع في دول عربية مماثلة؟ أما التطور الثاني في المنطقة، والذي زاد من اضطرابها، فكان سقوط حكومة الحريري في لبنان بعد فترة من المخاض والجمود السياسي، بحيث ساهم قرار جنبلاط وكتلته الدرزية في البرلمان بالاصطفاف إلى جانب "حزب الله"، في إعادة رسم الخريطة السياسية اللبنانية. كما أن تعيين ميقاتي، الملياردير السني، على رأس الحكومة، ولَّد ردة فعل عنيفة من قبل أنصار الحريري في الشارع اللبناني، حيث خرجوا محتجين على استبعاد زعيمهم واحتمال ارتماء رئيس الحكومة الجديد في أحضان "حزب الله"، مع ما يعنيه ذلك من رفضه لدعم المحكمة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. ويبقى آخر تلك التطورات في المنطقة، وإن كان أقلها أهمية مقارنة مع التطورين السابقين، قرار وزير الدفاع في الحكومة الإسرائيلية الحالية، الخروج من حزب "العمل" الذي كان يرأسه وتشكيل حزبه الخاص الذي سماه "الاستقلال"، وهو الأمر الذي قوى حكومة نتنياهو وجعلها في موقف أقوى وربما في غير حاجة لإبداء المرونة تجاه الفلسطينيين، والتي كان يطالب بها وزراء ونواب حزب العمل من الجناح اليساري، ليتم التركيز في المرحلة المقبلة على "التهديد الإيراني". والحقيقة أن جميع التطورات الآنفة تمثل ضربة قوية لجهود أوباما لإحياء مسلسل السلام، والتواصل الإيجابي مع العالم الإسلامي، والترويج لصورة أميركا كوسيط نزيه لعملية السلام في المنطقة. فأوباما منشغل هذه الأيام بالساحة الداخلية الأميركية والقضايا المحلية، وهو لا يريد الاحتكاك بإسرائيل بسبب حملته الانتخابية المقبلة، هذا بالإضافة إلى دخول أغلبية جمهورية إلى الكونجرس معروفة بتأييدها لإسرائيل. ومع أن إدارة أوباما ستواصل حربها في أفغانستان ومواجهتها لحركة "طالبان" في باكستان، إلا أنها وفيما يتعلق بالدفع نحو السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وإحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإن الإدارة الأميركية لا تملك الإرادة السياسية ولا التأييد الشعبي للدفع في اتجاههما.