لا توجد دولة واحدة في العالم تتمتع بتجانس اجتماعي تام، فكل الدول تكونها أشتات من البشر، إن لم تكن قبائل فهي طوائف أو أعراق أو طبقات أو مذاهب أو شرائح أو لغات ولهجات مختلفة، ناهيك عن تعدد الهويات والثقافات الفرعية داخل كل ثقافة أصلية. بل إننا لا نبالغ حين نقول إن الدولة الأقوى عسكريّاً واقتصاديّاً في عالمنا المعاصر وهي الولايات المتحدة الأميركية عبارة عن "متحف أجناس بشرية". ولكن هناك دولًا تمتلك قدرة فائقة على تذويب أشتاتها عند الحد المناسب الذي يضمن التعايش ويعززه، ويحول الاختلاف إلى تنوع خلاق. وتوجد دول أخرى تفشل في تحقيق "التكامل الوطني" بين الجماعات التي تكونها، وتحول الاختلاف إلى خلاف بل شقاق، يجعلها تعاني من أزمات متلاحقة، واحتقانات مستمرة، تعيق تقدمها، وتغري متربصين بها وأعداء لها بالتدخل بدس أنوفهم في شؤونها. وموضوع الدمج أو الاندماج والتوحد ظل دوماً من المباحث التي يتجدد الاهتمام بها في حقل الدراسات السياسية عموماً، لاسيما في مجال الاجتماع السياسي والتنمية السياسية والدراسات الإقليمية والعلاقات الدولية. والدمج Integration هو عملية وحالة نهائية في الوقت نفسه ترمي إلى تكوين "جماعة سياسية". وحتى تتم عملية الاندماج تلك على خير وجه، وتؤدي دورها في رفع الجماعة ودفع المجتمع إلى الإمام فلابد من توافر عدة شروط يمكن ذكرها على النحو التالي: 1 - الطوعية: فالاندماجات التي تتم قسراً لا يمكنها أن تعيش طويلاً، لأنها تحتفظ طيلة الوقت بجدُر تهبط وتعلو بين الجماعات المندمجة رغماً عنها، فتبقى في أحسن الأحوال متجاورة، يتحين كل منها الفرصة لينقض على الآخر، أو يتحلل من الرابطة التي تجمعه به. والمثل الناصع تاريخيّاً على هذا هو الإمبراطوريات التي تلاحقت على حكم البشرية طيلة القرون التي سبقت قيام "الدولة القومية"، ففي توسعها ضمت أجناساً وأتباع أديان ومذاهب ولغات وأعراقاً عديدة، ودمجت بينهم عنوة، وظل هذا الدمج القسري قائماً ردحاً من الزمن، من دون أن يتحول في أغلب الأحيان والمناطق إلى انصهار اجتماعي تام. ولهذا ما إن ارتخت قبضة السلطة المركزية في هذه الإمبراطوريات حتى تمردت عليها الجماعات المجبرة على الانضواء تحت لواء الإمبراطور وانفصلت تباعاً في كيانات مستقلة. أما المثل الناصع في العالم الحديث فهو الاتحاد السوفييتي السابق، الذي قام على ضم قوميات وعرقيات وأصحاب ثقافات وديانات بالقوة المسلحة ضمن هذا الكيان الإمبراطوري الكبير، الذي ما إن تراخت قوته، حتى تفكك إلى دويلات عدة. وهناك أيضاً الاتحاد اليوغسلافي الذي راح يتفكك قبل أن تطوي الألفية الثانية سنواتها المديدة. 2 - الخصائص البنيوية المشتركة: وهي تتوزع على مسارات متعددة تؤدي جميعها إلى تماسك "التيار الاجتماعي العريض" ومنها ما يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة والمتوارثة، التي إن تجددت لا تخل بهذا التماسك ولا تهزه فجأة فتنتج تصدعات وتشققات تضر به. ومنها ما يرتبط بالثقافة التي تحكم الأذهان والأفهام وتصقلها، وتحدد السلوك وتعيّنه، فهذه الثقافة بما تنطوي عليه من معارف وقيم وتوجهات يمكنها أن توظف لبناء الوعي الذي يؤسس للتعايش وقبول الآخر من حيث المنشأ، ثم يفتح الطريق أمام البحث الدائم والدائب عن الانصهار الوطني. ومنها كذلك ما يرتبط بالجوانب الاقتصادية ومقتضيات السوق التي تبني شبكة من المصالح بين الفئات والشرائح والطوائف تجعلها حريصة على أن تبقي علاقات جيدة مع الكتل الاجتماعية المغايرة. وهناك أيضاً الأبنية السياسية التي بوسعها أن تلعب الدور الأكبر والأهم في إيجاد تلاحم بين أبناء الوطن الواحد، مهما توزعت هوياتهم على اتجاهات عدة، فالأحزاب السياسية والبرلمانات يمكن في الدولة الديمقراطية أن تكون معامل لصهر أتباع مختلف الهويات ودفعهم في سبيل إيجاد حلول لمشكلات تواجه المواطنين كافة، وتشريع ما يخدم الجميع. ويمكن أيضاً أن تكون المؤسسات البيروقراطية والجيش والمعاهد التعليمية أماكن جيدة لتعزيز التعايش والانصهار الوطني، من خلال إتاحة الفرص المتلاحقة لمنتمين إلى هويات متعددة في أن يتفاعلوا في مكان واحد، وينفتحوا على أفكار وسلوكيات غيرهم. 3 - الإطار العادل: فالدستور الذي يحكم التصورات والممارسات داخل الدولة يجب ألا يفرق بين المواطنين على أي من الاختلافات القائمة بينهم، بل تسوي نصوصه بين الجميع في الحقوق والواجبات. ولو حمل دستور بلد أو قوانينه ما يميز بين مواطنيه على أي من أسس الاختلاف فإن هذا أمر جد خطير، ويفتح الباب على مصراعيه أمام ظهور أفعال اضطهاد سواء على مستوى الأفراد أم المؤسسات. ولا ينبغي الاكتفاء فقط بالنصوص التي تقيم العلاقة بين المواطنين على أساس التساوي والتماثل، بل من الضروري أيضاً أن تنتقل هذه النصوص إلى عالم الواقع، فتتحول من مجرد سطور إلى سلوك وتدابير. 4 - الرابطة العاطفية: فمن الضروري أن تكون هناك نقطة موحدة تنجذب إليها مشاعر الجماهير، وتكون الأكثر سطوعاً من أية نقاط أخرى جاذبة، يمكن أن تشتت ولاءهم الجمعي. وهذه النقطة لا تخلقها الادعاءات ولا يصنعها الاكتفاء بالخطابات والكلمات الرنانة الطنانة التي تدغدغ المشاعر. وهناك شروط أخرى، يمكن أن تطبق بجلاء على الحالة العربية، سيتم تفصيلها في مقال قادم إن شاء الله تعالى.