فجرت ثورة الياسمين في تونس كوامن كثيرة عند العرب وهم يواجهون أخطر التحديات وأشدها تعقيداً منذ أن سقطت دولة العثمانيين وأجهض حلمهم بالحرية والاستقلال حين وقعوا تحت الاحتلال والانتداب الغربي، وقامت إسرائيل تتوسع وتنتشر كالسرطان وتلتهم الجسد العربي، وظهرت أنظمة سمحت للاحتلال الذي خرج من الباب أن يعود للدخول من الشباك، وبات التحدي الجديد هو الخلاص من أنظمة قوية على أبناء شعوبها ضعيفة أمام عدوهم. ولئن تمكن النظام العربي من تحقيق لحظة تاريخية فريدة في حرب أكتوبر، فالمفجع أن نتائجها الإيجابية سرعان ما اختطفها العدو الذي أسقط النظام العربي في فخ دعوى السلام الواهية التي قصمت ظهر الأمة، وقطعت الطريق على أية محاولة أخرى تشبه حرب أكتوبر، وبدأت تحالفات العدو مع الغرب تدعم بعض الأنظمة التي تضمن له سير مخططاته. ووجدت الأنظمة التي وقعت في فخه أن قوتها لا تأتيها من شعوبها، وإنما تأتي من الدعم الخارجي، فلم تعد تكترث بمطالب الشعب، وتحول بعضها إلى أنظمة استبدادية تختنق فيها حرية الشعب، وصارت المهمة الجديدة لبعض الأنظمة العربية هي القضاء على حركات المقاومة التي تتمسك بالحق العربي. وانطلق فريق يدعو إلى مزيد من التنازلات لإسرائيل باسم الواقعية، على رغم أن هذه الواقعية لم تحقق للعرب خطوة واحدة إلى الأمام، بل كبلتهم ومزقت شملهم، ثم بدأت مسيرة التطبيع تقضي على كل القيم والمبادئ، وبات المتمسكون بحقوق الأمة يتهمون بأنهم حالمون أو متخلفون، بل إن إعلام المتصهينين بات يسخر منهم ومن دعوى العروبة، ويتهجم على الإسلام الذي بات في نظرهم عباءة متخلفة يجب رميها إلى التاريخ. وتم تصوير الصراع العربي الصهيوني على أنه نزاع بين متخاصمين على ملكية عقار، وقد بدأت التصفية النهائية للقضية مع نهاية القرن العشرين حين أدرك الإسرائيليون ألا أمل في جر سوريا إلى المعسكر الصهيوني بعد أن انتهى لقاء حافظ الأسد ببيل كلينتون في جنيف في مارس عام 2000 إلى مزيد من التمسك بالحقوق. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية في الأرض المحتلة قرر شارون نسف عملية السلام، فأوقف المفاوضات وحاصر عرفات، وكان قد رأى صواباً أن الإسلام هو الذي بات يشكل الدافع الفكري لأولئك الشباب الذين يقومون بالانتفاضة، وأن الذين يقتلون حتى من غير المتمسكين بالدين يسمون أنفسهم استشهاديين. ورأى صواباً كذلك أن قوى المقاومة التي تمكنت من تحقيق نصر على إسرائيل في جنوب لبنان ونصر آخر في الداخل الفلسطيني، هي في جلها ذات مرجعيات إسلامية بعد أن تراجع حضور القوى ذات المرجعيات الأخرى، وقررت إسرائيل أن تعمل على تشويه صورة الإسلام تمهيداً لاجتثاثه، وكان اقتحام شارون للمسجد الأقصى إيذاناً بانطلاق الحملة الدولية ضد الإسلام. ولتحقيق حشد شعبي مؤيد في الولايات المتحدة وفي الغرب عامة، وقعت جريمة 11 سبتمبر، وكان هدفها الأكبر تعبئة شعوب الغرب ضد العرب والإسلام معاً وتهيئتهم لمساندة حملات متتالية ضد العالم الإسلامي. وكان المفجع أن النظام العربي قبل الاتهام بكون الإرهاب صناعة عربية إسلامية ومضى في موكب قيادات كبرى في العالم أغمضت عينها عن الحقائق، واكتفت باتهام العرب والمسلمين عند أية عملية إرهابية تحدث، مع أنها تصمت حين تقوم إسرائيل بعملياتها الإرهابية المنظمة وهي لا تخفي أنها المسؤولة عنها كما فعلت في عمليات القتل والاغتيالات المتوالية في لبنان والعراق وفلسطين. ولم يواجهها أحد بالحقائق أكثر مما واجهتها دولة الإمارات الآمنة حين قام "الموساد" بجريمة اغتيال المبحوح فيها. أما حين قتل "أبو جهاد" مثلاً في تونس وحين وقعت مجزرة حمام الشط فإن الاستخبارات الفرنسية هي التي كشفت أن مسؤولين في وزارة الداخلية التونسية قدموا المساعدة لـ"الموساد". وعبر تجاهل مطلق لكون دول كبرى في الغرب هي التي تؤوي التطرف الديني وتقدم له الدعم اللوجستي، جعل النظام العربي مكافحة الإرهاب الإسلامي ذريعته الجديدة لنيل مزيد من الرضا الصهيوني، ولكن الهدف الحقيقي كان إنهاء المقاومة التي أطلق عليها اسم الإرهاب، وللأسف صدق بعض السذج والبسطاء أن عدوهم هو المقاومة وأن طريق الرخاء والاستقرار في التحالف مع الغرب ومع إسرائيل، وما يحدث في لبنان اليوم من اضطراب هو نتاج مشاريع الإرهاب الإسرائيلي الذي يريد رأس المقاومة كي يبقى لبنان ضعيفاً غير قادر على التصدي لإسرائيل، مع أن لبنان قدم نموذج الانتصار الضخم في نهاية القرن العشرين، ثم في عام 2006، فباتت أصوات المنادين باغتيالها نشازاً كرهته الشعوب. ثم ازدادت بعض المواقف العربية الرسمية اضطراباً في حرب إسرائيل على غزة، وتحولت مشاعر الإحباط العربي إلى شعور بالتفجع والمرارة حين لم تجد موقفاً عربيّاً صارماً من الحصار على غزة، فلما جاء الموقف الذي أعلنه أردوغان في "دافوس" رأته بطولة تعيد إلى الشارع العربي الأمل، وراح الشباب العرب يتبادلون على الإنترنت مقتطفات من الكلمات الجريئة الغاضبة التي وجهها أردوغان لبيريز، ثم وجدوا في "قافلة الحرية" التي واجهت عنجهية إسرائيل جداراً استناديّاً متيناً يدعم المقاومة. ولقد كانت وما زالت بعض قوى النظام العربي تريد إيهام الأمة العربية بأن عدوها ليس إسرائيل، ولإلهائها عن العدو الحقيقي أثيرت الفتنة النائمة بين السنة والشيعة، وبين المسلمين والمسيحيين، وظن صانعو الفتنة أن مجرد العزف على أوتار الطائفية والمذهبية أو العرقية يكفي لتأجيج مشاعر العرب ضد المقاومة سُنية كانت أم شيعية، قومية أم علمانية، متجاهلين أن انتصاراً واحداً تحققه المقاومة سيجعل جهدهم الإعلامي في مهب رياح النسيان. وقد كانت التهمة التي توجه إلى سوريا دائماً هي أنها تدعم المقاومة، وما يزال الواهمون بجدوى ألاعيب العصا والجزرة ولاسيما في الغرب يظنون أن بوسعهم إغواء سوريا أو إرهابها للتخلي عن دورها التاريخي في احتضان المقاومة بتجلياتها العربية والإسلامية معاً. وعلى رغم أن هذا الاحتضان مكلف، إلا أنه هو الطريق الذي نرجو أن يسلكه العرب جميعاً، وأن يدركوا أن العدو هو إسرائيل وليس من يقاومها ويحافظ على حقوق وكرامة العرب.