يجتاح العالم في الوقت الحاضر العديد من الحروب الناعمة التي تترك آثاراً عميقة في حياة الناس المعيشية وتؤدي الى العديد من القلاقل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في الوقت الذي تقف فيه العديد من البلدان عاجزة عن التأثير أو حتى التعامل مع هذه الحروب المستجدة. وعلى رغم أن هذه الحروب ليست جديدة تماماً إلا أنها اكتسبت بعداً وزخما ًجديدين منذ انتهاء الحرب الباردة، حيث تلاشت أوجه المنافسة المحتدمة بين المعسكرين التي امتدت طوال خمسة عقود متواصلة. وبعد حرب الغذاء التي برزت في عام 2008 وخفت حدتها في العامين الماضيين لتعاود البروز من جديد في بداية العام الجاري 2011، وتفاقم الصراع على مصادر المياه الذي يتوقع أن يزداد حدة مع انفصال جنوب السودان بسبب دخول بعض القوى الإقليمية والعالمية على خط الصراع كإحدى الأوراق الضاغطة لتحقيق مكاسب في جوانب أخرى من مجالات المنافسة المحتدمة، جاءت حرب العملات لتشكل تحديّاً كبيراً وخطيراً لكافة بلدان العالم، وبالأخص للبلدان العربية التي ترتبط عملاتها بإحدى العملات الرئيسية في العالم. ويبدو أن حرب العملات التي يقصد بها بصورة موجزة استخدام سعر العملة للتأثير في جوانب اقتصادية مهمة كأسعار السلع والتضخم والبطالة والتجارة الخارجية والنمو الاقتصادي بشكل عام، مما يمس بصورة مباشرة مستويات المعيشة في كافة بلدان العالم. وتتركز حرب العملات بين القوى الثلاث الرئيسية في العالم، وهي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، إلا أن بقية البلدان تعتبر بصورة أو بأخرى طرفاً في هذه الحرب، إما بسبب ارتباط عملاتها بعملة إحدى هذه القوى أو بسبب علاقاتها التجارية الوثيقة معها. وعلى رغم تأكيد قمة العشرين الأخيرة سعيها لتجنيب العالم حرب عملات إلا أن القوى الثلاث المشار إليها تدفع العالم نحو الفوضى، فالولايات المتحدة تنوي وفق إعلان بنك الاحتياط الفيدرالي طبع 600 مليار دولار في النصف الأول من هذا العام 2011 دون تغطية ضمن ما يسمى بـ"التيسير الكمي" مما يعني المزيد من الانخفاض في قيمة العملة الأميركية، في الوقت الذي يصر فيه الاتحاد الأوروبي على إبقاء أسعار الفائدة عند مستوياتها المنخفضة، وتتشدد الصين في إبقاء سعر عملتها منخفضاً على رغم الضغوط الأميركية المتزايدة. ونظراً لذلك فستشتد حرب العملات ضراوة في الفترة القادمة، وستعمل القوى الرئيسية على الدفاع عن مصالحها بكافة الوسائل المتاحة، في الوقت الذي ستتكبد فيه بعض البلدان خسائر جسيمة. والحال أن البلدان العربية لن تكون في منأى عن التطورات في أسواق النقد الدولية، الناجمة عن حرب العملات، مما يتطلب العمل على تقليص الخسائر المتوقعة، وذلك من خلال اتخاذ العديد من الإجراءات قصيرة وطويلة المدى، ففي المدى القصير لابد من إعادة تقييم العلاقات والاتفاقيات التجارية. أما على المدى البعيد، فإن التنسيق النقدي بين دول مجلس التعاون وحل المعضلات العالقة بشأن العملة الموحدة وفك الارتباط بالدولار أصبح ضرورة موضوعية في ظل حرب عملات تتزامن مع الافتقار للأدوات المالية المحلية التي من خلالها يمكن التحكم في السياسة النقدية وتوجيهها بما يتلاءم والمتطلبات الاقتصادية المحلية. صحيح أننا أطلقنا عليها صفة حروب ناعمة، إلا أن من الصحيح أيضاً أن الخسائر الناجمة عنها قد تفوق خسائر الحروب التقليدية، وخصوصاً أن ذلك سيشمل أسعار السلع والخدمات وقيمة التبادل التجاري وحجم الاحتياطيات المقومة بالعملات الأجنبية والاستثمارات المحلية والخارجية، مما سيجد له انعكاسات على مجمل الأوضاع الاقتصادية والنمو الاقتصادي على المديين القصير والبعيد ويستوجب إعادة النظر في التوجهات النقدية الحالية، وإعادة تقييمها لتتناسب ومرحلة حرب العملات. Summary محمود