انتفاضة خالية من السياسة وأحزابها وحركاتها وصراعاتها وتحالفاتها. والأهم من هذا كله أنها نقية مما توصم به السياسة في كثير من الأحيان، وهو أنها "لعبة قذرة". ومع ذلك حققت هذه الانتفاضة تغييراً سياسياً لم يتخيله أحد، ولم تحلم بمثله المعارضة التونسية بأطيافها كافة. هكذا كانت انتفاضة الشباب في تونس. لم يقدها حزب أو جماعة، ولم توجهها إيديولوجيا أو فكرة سياسية محددة. وربما كان هذا أحد أهم أسباب نجاحها. لم يثقل المنتفضون أنفسهم بإيديولوجيات ونظريات سياسية، بل تصرفوا بشكل طبيعي دفاعاً عن أنفسهم ومستقبلهم بعد أن هَّزهم مشهد شاب أقدم على الانتحار حرقاً عندما حيل بينه وبين آخر أمل صغير تعلق به، وهو أن يبيع خضاراً في الشارع بدلاً من أن يمد يده طلباً للمساعدة. كان المشهد حقيقياً جداً، بل كان عنوان الحقيقة المرة. لذلك كان صادقاً جداً ومؤثراً بشدة، بخلاف محاولات تقليده في أكثر من بلد عربي. لم ينتم محمد بوعزيزي، الذي بثَّ موته حياة جديدة في تونس، إلى أي حزب أو اتجاه سياسي. وكذلك كان أقرانه الذين خرجوا احتجاجاً على الظلم الذي بلغ سيله مبلغاً يصعب تحمله. لم يكن هؤلاء الشباب في حاجة إلى من يحركهم عندما خرجوا إلى الشارع في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر الماضي، ثم في معظم المدن التونسية الأخرى وصولاً إلى العاصمة. لذلك لا يصح أن تُنسب انتفاضتهم إلى غيرهم، رغم أن شبكة "الإنترنت"، قامت فعلاً بدور مهم فيها. لكنه دور مكمل ومساعد على نحو لا يجيز ما ذهب إليه مراقبون اعتبروا ما حدث في تونس "ثورة فيسبوك"، وفي مقدمتهم الصحافي البريطاني المخضرم اندريا ويتام، أحد مؤسسي صحيفة "الاندبندنت" المشهورة. وهذه مبالغة تعود إلى شيوع الاعتقاد في أن الإعلام الجديد، الذي لا تحده حدود، يجعل "العصا السحرية" حقيقة بعد أن ظلت أسطورة عبر التاريخ. فالانتفاضة التونسية حدثت على الأرض نتيجة القهر الذي تراكم عبر الزمن حتى أنتج الانفجار، وفقاً للقانون الذي يفيد أن التراكم الكمي يؤدي حال بلوغه مدى معيناً إلى تحول نوعي. وكان ضرورياً أن يبلغ التراكم هذا المدى، ما دامت عوامله مستمرة ومتزايدة، حتى لو لم تساهم "الإنترنت" في تسريع معدلاته. ومع ذلك، فالحذر من التهويل في دور "الإنترنت" لا ينبغي أن يقود إلى التهوين من شأنه. فقد ساهمت الشبكة العنكبوتية، وخصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها "فيسبوك"، في تسريع معدلات تراكم الغضب خلال السنوات الأخيرة، ثم في نقل وقائع الانتفاضة إلى مختلف أنحاء تونس فور انفجارها. كانت "الإنترنت" هي الوسيلة الأكثر أهمية للتواصل بين شباب يتراكم غضبهم بمقدار ازدياد معدلات البطالة وتنامي ممارسات الفساد واشتداد القبضة الحديدية إحكاماً. استخدموا المواقع الإلكترونية الاجتماعية للتعبير عن آرائهم من خلال كتابة مرموزة في الأغلب الأعم. وابتكروا وسائل لمواجهة الإجراءات التي اتخذتها السلطات لإغلاق هذه المواقع، ونجحوا في تأمين سبل الإفلات من الحصار المضروب عليها، وشيدوا عالمهم البديل عن الواقع المحُبط. لكن هذا العالم بقي افتراضياً إلى أن نشبت الانتفاضة التي فاجأته، مثلما كانت مفاجأة للجميع في تونس وخارجها. لم يتوقع أحد من المحللين في هذا العالم الافتراضي نشوب الانتفاضة، ولا دعا إليها قبل أن تنفجر. فقد نزلوا إلى الشارع في لحظة لم تكن معلومة، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من الذين لم يتعاملوا مع "فيسبوك" من قبل. فقد فعل الصدق الشديد في مشهد النار وهي تأكل جسد بوعزيزى ما لا يمكن أن تفعله عشرات مواقع التواصل الاجتماعي. وكان لهذا المشهد، وقد أصبح صورة متداولة عبر شبكة "الإنترنت"، أثر أقوى من آلاف الصور و"الفيديوهات" التي وُضعت في مواقع شتى على هذه الشبكة خلال السنوات الأخيرة. ولم يكن ممكناً استخدام "فيسبوك" و "يوتيوب" وغيرهما من هذه المواقع لتحقيق شيء يسير من الأثر العميق الذي أحدثه مشهد انتحار بوعزيزى. فقد حرك هذا المشهد العقل بمقدار ما آثار من انفعال وأكثر. كان المشهد معبراً بصدق عن تناقض عميق بين حال الشباب أبناء النخبة الذين تُفتح أمامهم الأبواب على مصاريعها، بلا مؤهل ولا مبرر، وكثير من الشبان المؤهلين الذين لا يجدون عملاً يناسب مؤهلاتهم ثم يمُنعون من أي عمل آخر بسبب الحصار المفروض على القطاع غير الرسمي الذي يستوعب قسماً لا بأس به من فائض الأيدي العاملة في بلاد عربية أخرى. وهذا مشهد لا يمكن أن تصنع "الإنترنت" مثله، ولا أن تنقل المعنى الذي يدل عليه ما لم يحدث على الأرض في لحظة يبلغ فيها التراكم الكمي المبلغ الذي يؤذن بالتحول الكيفي. لذلك كان دور "الإنترنت" ثانوياً إلى أن جاء مشهد انتحار بوعزيزي مدَّشناً هذا التحول، فأتاح للشبكة الإلكترونية وإعلامها الجديد مجالاً واسعاً عندما ساهم "فيسبوك" في تعريف التونسيين بما حدث في سيدي بوزيد، ثم في نقل وقائع الانتفاضة إليهم. لكن الفضل الأول، على الصعيد الإلكتروني، يعود إلى كاميرات الهواتف النقَّالة التي نقلت الصور إلى "فيسبوك" وغيره من المواقع الاجتماعية. ولذلك يعد الهاتف النقَّال هو "البطل الإلكتروني" الأول في تغطية أي حدث في عالم اليوم، لأنه يتيح لأي شخص يوجد في موقع هذا الحدث أن يصبح وسيلة إعلام. وهذا ما حدث في تونس، إذ صار كل شاب مراسلاً صحافياً قادراً على تغطية وقائع الانتفاضة لحظة بلحظة. وأتاح "فيسبوك" إمكانات بث هذه التغطية بشكل فوري. وازداد دور "مجتمع الإنترنت" في الأيام التالية على نشر الصور "والفيديوهات" والآراء والتعليقات والنصائح. وبرز هذا الدور بقوة في تغطية القمع الأكثر دموية ضد المتظاهرين في بعض المدن. ولعل تنامي دور "مجتمع الإنترنت" بعد نشوب الانتفاضة هو الذي دفع إلى المبالغة في تقدير هذا الدور إلى حد اعتبارها "ثورة فيسبوك". لكن المبالغة الأكبر كانت في تقدير دور بعض الفضائيات الإخبارية العربية التي يُقال إنها هي التي نقلت أحداث الانتفاضة إلى داخل كل بيت. والأكيد أنها لعبت دوراً مهما في ذلك، لكن معظم ما بثته كان منقولاً عن "فيسبوك" و "يوتيوب" ومعتمداً على صور التقطتها كاميرات هواتف نقَّالة. فلم يكن لأية فضائية مراسلون في معظم المدن التونسية، بخلاف "فيسبوك" الذي كان حاملو هذه الهواتف بمثابة مراسليه في كل مكان. غير أن الشباب الذي غيَّر الواقع على الأرض هو الذي أتاح دورا مميزاً لـ"مجتمع الإنترنت" في انتفاضة لم تخرج عن الركائز الأساسية لنظرية الثورة، وفي مقدمتها أن التغيير يحدث في عالم الواقع ومجتمعه الحقيقي وليس في أي عالم افتراضي.