يعتقد كثيرون منا خطأ أن الطب الحديث قد نجح في هزيمة الأمراض المعدية ودفع بها إلى زوايا النسيان في التاريخ الطبي وخصوصاً فيما يتعلق بالقتلة التاريخيين مثل ميكروب السل، وفيروس الحصبة، والجراثيم المسؤولة عن الالتهاب الرئوي الحاد، وأمراض الإسهال. وقد يتولد هذا الاعتقاد الشائع نتيجة للاختراقات المتوالية في مجال التطعيمات الطبية، والمضادات الحيوية، وبسبب ارتفاع مستويات المعيشة فيما يتعلق بتوفر مياه الشرب النظيفة، ونظم الصرف الصحي الحديثة، بالإضافة إلى تطور نظم الخدمات الصحية بوجه عام، وكفاءة وفعالية الرعاية الطبية لمن يقعون ضحايا لأحد الأمراض المعدية. وإن كان هذا الاعتقاد، على كل حال، يفنده حجم الوفيات هذا الشتاء بين البالغين والأطفال من جراء فيروس الإنفلونزا، أو وباء إنفلونزا الخنازير الذي أوقع مئات الضحايا في بريطانيا وحدها، وهي إحدى أغنى دول العالم، وأكثرها تطوراً على صعيد الرعاية الطبية. وإذا ما انتقلنا للدول النامية والفقيرة فسنجد أن عدد ضحايا الأمراض المعدية يزيد سنويّاً عن بضعة ملايين. فأمراض الإسهال وحدها تقتل 1.3 مليون طفل سنويّاً، بينما يقتل الالتهاب الرئوي 1.7 مليون طفل هو الآخر، مما يجعل هذين المرضين وحدهما مسؤولين عن واحد من بين كل ثلاث وفيات تقع بين الأطفال دون سن الخامسة. وبناء على هذه الأرقام يتسبب الالتهاب الرئوي في عدد من الوفيات السنوية بين الأطفال يزيد عن عدد من يتسبب في وفاتهم كل من فيروس الإيدز وطفيلي الملاريا مجتمعين، ودون أن يتمتع الالتهاب الرئوي بنفس القدر من التغطية الإعلامية مما منحه لقب القاتل المنسي، ووضعه خارج الوعي الصحي العام. وكما يدل اسمه يصيب الالتهاب الرئوي الحاد أنسجة الرئتين المسؤولة عن التنفس، أو الحويصلات الهوائية، فتمتلئ بالصديد والسوائل، مما يعيق عملية التنفس ويمنع مد أنسجة الجسم بالأكسجين، وتخليصه من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يشكل نوعاً من الاختناق الداخلي. وتوجد أسباب عديدة للإصابة بالالتهاب الرئوي، وإن كان النوع المقصود هنا هو النوع الناتج عن حدوث عدوى بأحد أنواع الجراثيم مثل البكتيريا، أو الفيروسات، أو الفطريات. ومثل العديد من الأمراض المعدية الأخرى تحدث العدوى بالالتهاب الرئوي من خلال طرق متنوعة ومختلفة. فعلى سبيل المثال يمكن للفيروسات والبكتيريا التي توجد بشكل شائع في أنف أو حلق الطفل أن تنتقل إلى الرئتين مسببة عدواهما والتهابهما. وتنتقل الميكروبات المسببة لالتهاب الرئتين أيضاً عن طريق الهواء المحمل بالجراثيم من كحة أو عطاس شخص مريض. وأحياناً ما تنتقل هذه الميكروبات عن طريق الدم خصوصاً أثناء الولادة أو خلال الفترة التالية لها مباشرة. والغريب أنه على رغم انتشار حالات الالتهاب الرئوي الجرثومي بشكل كبير بين الأطفال حيث تقع حوالي 155 مليون إصابة سنويّاً إلا أنه ما زال من الأمراض التي تحتاج للمزيد من البحث والدراسة حول أنواع الميكروبات التي تسببه، وطرق انتقالها، لما لزيادة المعرفة في هذا المجال من نتائج مهمة على صعيد جهود الوقاية والعلاج. وتعتمد جهود الوقاية ضد الالتهاب الرئوي إلى حد كبير على التطعيمات، وبالتحديد نوعين من التطعيمات ضد البكتيريا المسؤولة عن الشكلين الأخطر من المرض. والنوع الأول من التطعيمات، المعروف اختصارا بـ (Hib)، يزيد من مناعة الجسم وقدرته على مقاومة العدوى بأحد أنواع البكتيريا الخطيرة، التي كانت تعتبر من الأسباب الرئيسية خلف الإصابة بالالتهاب الرئوي، بالإضافة إلى التهاب السحايا أو الأغشية المغلفة للمخ، المعروف بالحمى الشوكية، والتهاب لسان المزمار (أعلى سقف الحلق) لدى الأطفال. وبالفعل نجح هذا التطعيم في خفض حالات العدوى بنسبة 99 في المئة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بعد أن كانت هذه البكتيريا تتسبب في عشرات الآلاف من الإصابات سنويّاً. أما النوع الآخر من التطعيمات والمستخدم ضد نوع آخر من البكتيريا المسببة أيضاً للالتهاب الرئوي (pneumococcal vaccine)، فيعتبر عن حق من أهم الاختراقات الطبية في مجال الصحة العامة منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وهذا التطعيم الذي يحقق وقاية ضد عشرة أجناس من البكتيريا أوصت الجهات الطبية في الولايات المتحدة بتعميم استخدامه منذ عام 2000، بينما أعلنت الحكومة البريطانية في فبراير من عام 2006 عزمها إدراجه ضمن برنامج التطعيمات الوطني لجميع الأطفال. وفي عام 2009 وافقت الوكالة الأوروبية للأدوية على تعميمه في جميع الدول الأوروبية، بناء على فعاليته المتميزة في الوقاية ضد الأمراض الأخرى التي تسببها البكتيريا المسؤولة عن الالتهاب الرئوي، وخصوصاً التهاب السحايا أو الحمى الشوكية، وتسمم الدم. ولكن على رغم فعالية هذا التطعيم إلا أن استخدامه ظل مقصوراً على الدول الغربية والغنية، بسبب تكلفته المرتفعة، حيث يعتبر من أكثر التطعيمات الطبية تعقيداً في إنتاجه، ويستغرق عاماً كاملًا لإتمام دورة الإنتاج. وهذه العقبة تم اجتيازها مؤخراً، مع التوصل لاتفاق بين التحالف الدولي للتطعيمات واللقاحات -منظمة طبية خيرية دولية- والشركات المصنعة للتطعيم، لخفض ثمنه من 38 جنيهاً إسترلينيّاً في بريطانيا مثلًا، إلى 2.2 جنيه إسترليني في الدول الأفريقية، وهو ما يشكل خطوة مهمة على صعيد دعم جهود تحقيق أهداف الألفية للتنمية، الرامية لخفض معدلات الوفيات بين الأطفال بمقدار الثلثين بحلول عام 2015، من خلال أحد أنجح مظاهر التعاون الدولي بين الجهات الصحية الدولية والمنظمات الخيرية، وبين الشركات الدوائية متعددة الجنسيات.