لقد اتضحت الصورة بالعراق، مِن غير إقليمه، أن كلَّ شيء سائر نحو الأسلمة، فأهل الإسلام السياسي لا يقوون على التمييز بين دوائر الدولة والحسينيات والمساجد، حتى تحولت أروقة الوزارات، في المناسبات الدِّينية، إلى تعازٍ، وإذا اعترض آخرون، حرصاً على العمل، يُشار إليهم بالمارقين، أو أذناب "البعث"، مع أن تطبيقات الحملة الإيمانية جارية، بعد وصف صاحبها أيام المعارضة بـ"الكافر"، والهتاف بذلك في لحظة إعدامه (31 ديسمبر 2006). باسم الدِّين أيضاً، يقوم أُمراء "دولة العِراق الإسلامية" بتنفيذ المجازر، وكلما زاد عدد الضحايا كان أجر الانتحاري عالياً. كذلك الحال بالنسبة للميليشيات فإنها ترفع صور الإمام علي وأولاده رايات أمامها. ولو دققت في رايات الإسلام السياسي المقاوم والحاكم، على حد سواء، لوجدت الأمر طلب السلطة لا الديانة، والاستبداد على الناس باسم الدين. انظروا إلى أبرز مفكري الإسلام السياسي سيد قطب (أُعدم 1966)، الذي تشبع الإسلام السياسي العراقي، الشِّيعي والسُّنَّي، بثقافته، كيف يفسر الآيات التي تملأ النُّفوس مودة ومحبة وتآخ بين البشر بما ينسخها من آيات المناسبة في حرب أو موقف من المواقف، حاولوا تعقب ذلك في تفسيره "في ظلال القرآن"، وقابلوه بتفاسير غير المسيسين مِنْ المفسرين، مثل الطَّبري (ت 310 هـ)، وهو مِنْ كبار علماء السُّنَّة في "جامع البيان"، والطَّبرسي(547 هـ) وهو مِنْ كبار علماء الإمامية في "مجمع البيان"، ستجدون الكراهية صارخةً في الظِّلال. فآية "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256) لا يفسرها قطب إلا بإلحاقها بالآية: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" (الأنفال: 60)، كي يجعل الأولى طارئةً والثانية أبديةً. ونراه لا يفسر الآية التي تدعم التَّعايش والتآخي: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى" (المائدة: 82)، بأنها تعبير عن حالة عابرة، ويحشد الآيات المعارضة لها، كي يحكم على ما يساعد على الألفة والتَّعايش بالنَّسخ. أتيت بهذا المثال لتوضيح أن الدين السياسي، الذي يكفر المجتمعات وهو في المعارضة، ويسعى لأسلمة مظاهر الحياة وهو في السلطة، مهما اختلفت مذاهب المنتسبين إليه، يبقى ينشد "الحاكمية" لا سواها، وما الديمقراطية سوى وسيلة للسلطة. لا أرى الدين السياسي كاملاً يخرج عما عبر عنه أحد رموزه محمد قطب عندما قال محرضاً: "أما حين يكون الأمر بين كلام الله وكلام البشر، فمنذا الذي يبلغ به التبجح أن يقول: إنه أعلم من الله، وأن كلام الله لا يلزمه لأنه مجرد وجهة نظر" (العلمانيون والإسلام). ومعاذ الله أن يجرؤ أحد على قول ذلك في كتاب الله، لكن من له حق أن يكون نائباً عن الله، ويتسلط باسمه! ومن دون له ظلم الآخرين! إذا كان الإسلام السياسي يفرض نهج "الحاكمية"، مثلما يراها الأخوان قطب، بما لديه مِنْ نص ديني، فلنا بالحديث النَّبوي الآتي حكماً: ‏"وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ‏ذِمَّةَ ‏اللَّهِ ‏وَذِمَّةَ ‏نَبِيِّهِ فَلا تَجْعَلْ لَهُمْ ‏ذِمَّةَ ‏‏اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ ‏‏نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ‏ذِمَّتَكَ ‏وَذِمَّةَ‏ ‏أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ ‏‏أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ ‏‏أَنْ تُخْفِرُوا ‏ذِمَّةَ اللَّهِ‏ ‏وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَم لا" (صحح مسلم). وفي الحالة العِراقية نُذكر باعتراض حكومة عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، والرَّجل كان مصلياً صائماً، على إجازة حزب الإخوان المسلمين، حفظاً للدِّين مِنْ متغيرات السياسة وحفظاً للسياسة من رجال الدِّين الحزبيين، وكان رأي الحكومة مطابقاً لرأي عضوي محكمة التمييز القاضيين محمد محمود القشطيني (ت 1996)، وعبد الهادي الظَّاهر، وجاء في حجتهما: "بغية عدم حرمان البلاد والمواطنين مِن النَّظريات الدِّيمقراطية الصحيحة السَّائدة في العالم اليوم، وبما أن المحافظة على قدسية الدِّين الإسلامي الحنيف في بلد ناهض، مثل بلدنا، توجب علينا عدم زج مبادئه في غمرة النَّقد والمماحكة الحزبية، التي لا يسلم مِنَ التعرض لها أي حزب سياسي يمارس نشاطه في مقارعة مبادئ الأحزاب السِّياسية الأخرى" (المشايخي، تاريخ نشأة الحزب الإسلامي العِراقي). وبالفعل كان الصراع على أشده بين الأحزاب السياسية، فالإخوان المسلمون يهتفون: "حزب الإسلام قائدنا حكم القرآن يلوكنا (يليق بنا)"، ويرد القوميون: "طليعتنا عربية.. رسالتها إنسانية"، وكادت تحدث كارثة بين الجانبين (نفسه). وفي الصِّراع مع البعث (قبل سلطته) تم اغتيال الإخواني محمد البنا (يوليو) 1960، عقب يومين مِنْ احتفال الإخوان بالهجرة النَّبوية (المشايخي، محمد محمود الصَّواف)! أقول وكم يقترب الموقف مِما حاور به، العام 1942، عضو الهيئة الوفدية البرلمانية يومها فؤاد سراج الدِّين (ت 2000) رائد الإسلام السِّياسي حسن البنا (اغتيل 1949): "عايز أعرف أنتم جماعة دينية أو حزب سياسي؟ إحنا ما عندناش مانع أبداً إنكم تكونوا حزب سياسي، أعلنوا على الملأ أنكم بتشتغلوا بالسِّياسة، وأنكم كونتم حزب سياسي، ولا تتستروا بستار الدِّين، ولا تتخفوا في زي الدِّين. أما أن تتستروا تحت شعار الدِّين، والله أكبر ولله الحمد، وفي نفس الوقت تقوموا بالعمل السِّياسي، وتباشروا الحزبية، فهذا غير معقول، لأنه يخل بمبادئ تكافؤ الفرص بينكم وبين الأحزاب السِّياسية. أنا كرجل سياسي حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادي بشعارات دينية سامية" (يوسف، الإخوان المسلمون وجذور التَّطرف الدِّيني). أرى الفرصة سانحة للعِراق أن يتخلص مِنْ آثار الأوجاع العِظام، وهي فرصة قد لا يجود بأختها الزَّمن، ولاغتنامها واستثمارها لابد للأحزاب الدِّينية من مراجعة برامجها، وعقيدتها الشُّمولية، لا أن تجري أسلمة المجتمع، والإصرار على تطبيق الحاكمية وبطرق ملتوية، وتقسيم المدن إلى إسلامية ولا إسلامية، وبها سيزيد عزل إقليم كردستان لنفسه، فهو محافظات لا إسلامية في إدارتها، لا يتجانس وضعه مع عاصمة مؤسلمة، وسيشجع هذا إسلامه السياسي على محاولة تقويض ليبراليته، مثلما ساهم الإسلام السياسي السوداني، بإصراره على تطبيق الحاكمية، في تجزئة السودان. لا تعني أسلمة المجتمع سوى الاستبداد، فحسب الشَّيخ الكواكبي (ت 1902): "الاستبداد السِّياسي متولد من الاستعباد الدِّيني"(طبائع الاستبداد...)، وحسب الشَّيخ النَّائيني (ت 1936): "شعبة الاستبداد الدِّيني... من أعسر الأمور وأصعبها "(تنبيه الأُمة...). أقول: تنبهوا إلى أين أنتم تتجهون بالعراق!