بالنسبة لشخص مثلي، فقد العديد من أعضاء أسرته، وعددا كبيراً من الأفراد الذين تربّى معهم، في المحرقة( الهولوكوست)، فإنه يؤلمني أشد الألم أن أرى ملاحظات أدليت بها، وقد انتزعت عن سياقها الأصلي، وفُسِر معناها على عكس المقصود، بل وعلى العكس تماما من قناعاتي التي تكونت بشكل عميق في غمار تلك الأحداث الرهيبة. بداية أود القول إن الإشارة إلى أفران الغاز ليست لها مكان في الخطاب السياسي، لذلك أود التعبير عن أسفي، على أنني قد أدليت بملاحظة عن تلك الأفران، منذ ما يقرب من 37 عاماً. في عموده بتاريخ 21 ديسمبر الماضي، المعنون " فيما وراء واقعية كسينجر"، استخدم "مايكل جيرسون" تعليقات قلتها أثناء محادثة لم تستغرق سوى دقيقة واحدة مع ريتشارد نيكسون، وذلك كي يعقد مقارنة بين انعدام الحساسية الأخلاقية، التي يتسم من يطلق عليهم "واقعيو السياسة الخارجية"، وبين الرؤية الإنسانية الأوسع نطاقا التي يتسم بها منتقدوهم (وهو واحد منهم بالطبع). ما كتبه "جيرسون" على لساني، يتجاوز في أهميته بكثير مجرد تعليق يرِد ضمن عمود بإحدى صفحات الرأي، ذلك أن السياق له أهمية كبيرة عند الحديث عن أمر بخطورة موضوع الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي. فـ"جيرسون" يقدم الموضوع، كما لو أن الحديث عن الهجرة قد جاء في نطاق نقاش عام مجرد بين هؤلاء الذين حاولوا تخفيف التوترات بين العملاقين الكبيرين، وبين الداعين إلى المواجهة الإيديولوجية بينهما، تلك المواجهة التي كان "الواقعيون" راغبين من خلالها آنذاك، في التضحية بالهجرة اليهودية على مذبح "سياسة الوفاق" بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي . بيد أن ما حدث كان على النقيض تماماً من ذلك. فتلك الهجرة تمت في الأساس بسبب جهود"الواقعيين" الذين كانوا موجودين في البيت الأبيض؛ لأن الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي، لم تكن في أي وقت موضوعاً من الموضوعات المطروحة من قبل أي إدارة كسياسة أميركية رسمية. وهذا الأمر لم يكن راجعاً لانعدام الحساسية الأخلاقية، وإنما للأزمات المتفاقمة التي فرضت على الإدارة الأميركية آنذاك أولويات مختلفة. ففي عام 1969 قمنا بإدخال هذا الموضوع في "القناة الرئاسية" كموضع إنساني في الأساس، لأن تقديرنا إبان تلك الفترة أن أي مواجهة مع الاتحاد السوفييتي في السياسة الخارجية ستقود إلى رفض الهجرة اليهودية إلى إسرائيل من قبل الزعماء السوفييت، وهو ما كان يعني تفاقم التوتر في العلاقات بين الدولتين. ونتيجة لذلك النهج الذي اتبعناه، ازداد عدد اليهود المهاجرين من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل من 700 مهاجر سنوياً عام 1969 إلى ما يقرب من 40 ألف مهاجر سنوياً عام 1972؛ كما وصل إجمالي عدد المهاجرين في الولاية الأولى للرئيس ريتشارد نيكسون فقط إلى ما يقرب من 100 ألف مهاجر. وللمحافظة على هذا التدفق من خلال الدبلوماسية الهادئة، فإننا لم نلجأ أبداً لاستخدام هذه الأرقام لتحقيق غايات سياسية. وهذا الموضوع - هجرة اليهود- لم يخرج للعلن إلا كنتيجة لنجاح سياستنا في الشرق الأوسط وقيام مصر بطرد المستشارين السوفييت من أراضيها. ولاسترداد علاقاته بمصر في ذلك الوقت، قام الاتحاد السوفييتي بفرض ضريبة على الهجرة اليهودية. وكرد فعل على ذلك، سعى السيناتور "هنري جاكسون" الذي كنت ـ ولا أزال ـ أحمل له قدراً كبيراً من الاحترام، لرفع تلك الضريبة من خلال تقديم مقترح بإجراء تعديل دستوري أطلق عليه في ذلك الوقت تعديل " جاكسون- فانيك". بيد أن قناعتنا في ذلك الوقت كانت هي أن استمرارنا في مسار الدبلوماسية الهادئة، من أجل تشجيع الهجرة اليهودية لإسرائيل، هو المسار الأكثر حكمة. وعندما تم رفع الضريبة بفضل دبلوماسيتنا الهادئة، كان إصرار "جاكسون" و"فانيك" على مواصلة السعي من أجل الموافقة على تعديلهما وإكسابه الصفة الدستورية - وهو ما تم في نهاية المطاف وكان سبباً في التأزم الذي حدث آنذاك. والمناقشة المشار إليها في بداية المقال تمت، ليس بسبب تصريح أدليت به في ذلك الوقت، وإنما كنتيجة لحقيقة أن الرئيس كان قد طلب منى أن اقترب من السيناتورين المذكورين، وأشرح لهما لماذا كان النهج الذي اتبعاه غير حكيم. وقد حاولت من خلال الإجابة التي قدمتها على طلب الرئيس، أن ألخص السياق بشكل مختزل لأقصى حد، وهو اختزال كان لا بد أن تبدو تلك الإجابة عند قراءتها في إطاره بعد ذلك التاريخ بـ37 عاما"مسيئة". والسبب أن تلك الإجابة كانت موجهة لرئيس تبنى هذه القضية، ولم يستخدمها أبداً لأغراض سياسية، وذلك حتى يحافظ على إطارها الإنساني الذي يجب ألا تخرج عنه. معنى ذلك باختصار أن التعليق الذي وجهته للرئيس نيكسون، بأن الهجرة لا يجب أن تكون موضوعاً من موضوعات السياسة الخارجية، يجب أن يتم النظر إليه ضمن هذا السياق، وليس خارجه. كما أن هذه المناقشة بأكملها، يجب أن تفهم على أنها استغرقت 15 دقيقة، وأنها تمت أثناء اجتماع بين الرئيس نيكسون ورئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، لم يحضره أحد آنذاك سوايَ، إضافة إلى السفير الإسرائيلي في واشنطن - ورئيس وزراء إسرائيل فيما بعد - إسحاق رابين. لقد أثبتت الأحداث بعد ذلك أن حكمنا على الأمور كان صائباً، حيث هبطت الهجرة اليهودية لإسرائيل بمقدار الثلث عن أعلى مستوى كانت قد وصلت إليه، ولم تستأنف بعد ذلك على مستوى كبير سوى بعد عشرين عاماً - كما يعترف جيرسون نفسه. (حدث هذا أثناء انهيار الاتحاد السوفييتي). يعزو جيرسون انهيار الاتحاد السوفييتي - جزئياً - إلى تعديل جاكسون - فانيك.. لكن الحقيقة هي أن هذا التعديل لم يلعب دوراً ذا شأن في هذا السقوط، الذي كان نتاجاً للتمدد الإمبراطوري الزائد، والإدارة الاقتصادية الرديئة، واستمرار "الجمهوريين" في حكم أميركا، وصولاً إلى العهد "الريجاني". "جيرسون" يسخر من سياسة الوفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في بداية سبعينيات القرن الماضي وينظر إليها كما لو كانت نوعاً من التفريط الأخلاقي. كم هي قصيرة الذاكرة! "جيرسون" ينسى أن المناقشة موضوع البحث، قد حدثت في الأول من مارس 1973 بينما كانت حرب فيتنام قد انتهت تواً، ولم يكن أسرى الحرب قد عادوا بعد إلى الوطن. لقد طبقنا في ذلك الوقت استراتيجية عالمية فعالة، حيث انفتحنا على الصين، وأجرينا حواراً واسع النطاق مع الاتحاد السوفييتي، وحققنا تقدماً كبيراً في علاقاتنا بمصر، كما حققنا نجاحاً مشهوداً في موضوع الهجرة. ومن أجل مواصلة هذه السياسة، تمت تلك المناقشة في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، وفي هذا السياق على وجه التحديد، يجب أن يتم النظر إليها. هنري كسينجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية من1973ـ 1977 ينشر بترتيب خاص مع خدمة"تريبيون ميديا سيرفس"